
نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة
صدر هذا الأسبوع من البيت الأبيض التقرير الاستراتيجي الجديد للأمن القومي للولايات المتحدة لعام 2025، في وثيقة ممتدة تشكّل خريطة طريق لطموحات واشنطن في الداخل والخارج خلال السنوات المقبلة، وتؤكد بوضوح أن الولايات المتحدة تعتزم الحفاظ على موقعها كالقوة المحرِّكة الأساسية للنظام الدولي، سياسياً واقتصادياً وتكنولوجياً.
يحدّد التقرير، الذي صدر تحت عنوان „استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة“، جملة من الأهداف الكبرى، في مقدمتها: حماية أمن الولايات المتحدة وسيادتها وحدودها، الحفاظ على قوة الاقتصاد الأميركي وريادته، إعادة بناء القاعدة الصناعية، وضمان بقاء الجيش الأميركي الأكثر تطوراً وقدرة في العالم، مع ردع أي تهديد للأمن القومي عبر قوة عسكرية متفوقة وردع نووي متقدم، إلى جانب التأكيد على أهمية استمرار القوة الناعمة الأميركية وتأثيرها الثقافي حول العالم.
ويُبرز التقرير رؤية تقوم على أن ازدهار الداخل الأميركي هو أساس النفوذ الخارجي؛ إذ تشدّد الوثيقة على ضرورة إعادة تركيز السياسات الاقتصادية لصالح الطبقة الوسطى والعمال الأميركيين، وتعزيز الطاقة المحلية، وإعادة توطين سلاسل التوريد الحساسة داخل الولايات المتحدة أو لدى شركاء موثوقين، بما يضمن أن تبقى القوة الاقتصادية قاعدة صلبة للتفوق العسكري والدبلوماسي الأميركي في العالم.
على المستوى الجغرافي، يمنح التقرير أولوية واضحة للنصف الغربي من الكرة الأرضية، حيث يعلن صراحة عن سعي واشنطن إلى استعادة ريادتها في القارة الأميركية، عبر ما يسميه “تصحيحاً” لمبدأ مونرو التاريخي، بما يضمن بقاء المنطقة بعيدة عن الاختراقات الخارجية المعادية، ومحصّنة في وجه تجارة المخدرات والمنظمات الإجرامية العابرة للحدود، مع تعزيز الاستقرار والتنمية وتشجيع الاقتصادات الخاصة في دول الجوار. ويرى واضعو الاستراتيجية أن نجاح الولايات المتحدة في ترتيب بيتها الإقليمي ينعكس مباشرة على أمنها الداخلي وقدرتها على توجيه مواردها نحو المنافسة العالمية.
وفي آسيا والمحيط الهادئ، يؤكد التقرير أن الحفاظ على منطقة “حرّة ومفتوحة” في المحيطين الهندي والهادئ بات أولوية حيوية، مع التركيز على ردع أي محاولة للهيمنة على بحر الصين الجنوبي أو تغيير الوضع القائم في مضيق تايوان بالقوة. وتطرح الاستراتيجية مزيجاً من الردع العسكري وتعميق الشراكات مع الحلفاء في اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وغيرها، بما يمنع اندلاع صراع واسع، ويحافظ في الوقت ذاته على حرية الملاحة وسلاسل الإمداد العالمية التي يعتمد عليها الاقتصاد الدولي.
أما في أوروبا، فتعيد الوثيقة التأكيد على أهمية التحالف الأطلسي، لكنها تدعو في الوقت ذاته الحلفاء الأوروبيين إلى تحمل نصيب أكبر من أعباء الدفاع، وزيادة إنفاقهم العسكري، وتقليص الفجوة التاريخية في الأعباء بين ضفتي الأطلسي. وتطرح واشنطن في هذا السياق رؤية لشراكة أكثر “توازناً وعدالة”، تحافظ فيها الولايات المتحدة على دورها القيادي في الردع والدعم، مع تشجيع أوروبا على تعزيز قدراتها الذاتية ومناعتها الاقتصادية والأمنية في مواجهة التهديدات.
وفي الشرق الأوسط، تشدد الاستراتيجية على منع أي قوة معادية من السيطرة على موارد الطاقة أو الممرات البحرية الحيوية، مع تجنب الانزلاق مجدداً إلى “حروب لا تنتهي”. وتطرح واشنطن مقاربة تقوم على “السلام عبر القوة”، وتوظيف الدبلوماسية المدعومة بقوة عسكرية موثوقة، من أجل احتواء النزاعات الإقليمية ومنع تحوّلها إلى حروب أوسع، مع الاستفادة من واقع الاستقلالية الطاقوية المتزايدة للولايات المتحدة لتخفيف الأعباء دون التخلي عن دورها كضامن أساسي لاستقرار المنطقة.
الجانب التكنولوجي يحتل مكاناً مركزياً في التقرير؛ إذ يربط بين مستقبل القوة الأميركية وقدرتها على قيادة الموجة التالية من الابتكار في مجالات الذكاء الاصطناعي، والتقنيات الحيوية، والحوسبة الكمية. وتؤكد الوثيقة أن الولايات المتحدة “تريد ضمان أن تقود التكنولوجيا الأميركية والمعايير الأميركية، وبشكل خاص في الذكاء الاصطناعي والبايوتكنولوجي والكم، حركة التقدم في العالم”، بما يعني تعزيز الاستثمار في البحث العلمي والبنية التحتية الرقمية والطاقة، إلى جانب حماية الملكية الفكرية الأميركية من السرقة والتجسس الصناعي.
كما تشدد الاستراتيجية الجديدة على أن القوة الناعمة – من الجامعات إلى الثقافة والإعلام والقطاع الخاص – تظل رصيداً لا غنى عنه للولايات المتحدة، وأن الحفاظ على “جاذبية النموذج الأميركي” جزء أساسي من الأمن القومي. ورغم الانتقادات التي توجّه أحياناً إلى السياسة الأميركية، ترى الوثيقة أن الاعتزاز بالقيم الأميركية، والإيمان بقدرة الولايات المتحدة على تجديد نفسها داخلياً، هما شرط لاستمرار نفوذها الأخلاقي والثقافي في العالم.
وتحدد الوثيقة مجموعة من المبادئ الحاكمة للسياسة الخارجية، من بينها: تركيز تعريف المصلحة القومية وتجنّب التشتت في قضايا ثانوية، اعتماد “السلام عبر القوة” كقاعدة للردع ومنع الحروب الكبرى، الميل إلى عدم التدخل المباشر إلا عند الضرورة القصوى، واحترام سيادة الدول وحقها في وضع مصالحها الوطنية أولاً، مع إصرار الولايات المتحدة في الوقت ذاته على حماية سيادتها وحدودها من أي محاولات اختراق أو ضغوط عابرة للحدود.
في المجمل، يقدم التقرير الاستراتيجي الأميركي الجديد رؤية متكاملة لدور الولايات المتحدة في عالم يتغير بسرعة؛ فهو يقرّ بأن مرحلة “الهيمنة الأحادية” بعد الحرب الباردة قد انتهت، لكنه يصرّ في المقابل على أن واشنطن ما تزال تمتلك، بفضل اقتصادها المتقدم، وقوتها العسكرية، وريادتها التكنولوجية، وشبكة تحالفاتها الواسعة، المقومات الضرورية للبقاء القوة الأولى القادرة على توجيه مسار النظام الدولي، وحماية الاستقرار، ومنع نشوء توازنات معادية لمصالحها ولأمن حلفائها.
وهكذا، فإن صدور هذه الاستراتيجية لا يمثل مجرد تحديث روتيني لوثيقة حكومية، بل يشكّل إعلاناً واضحاً عن مرحلة جديدة من الحضور الأميركي في العالم: حضور يسعى إلى الجمع بين حماية الداخل وتعزيز الرفاه الاقتصادي، وبين الحفاظ على القيادة العالمية في مجالات الدفاع والتكنولوجيا والطاقة، مع إعادة تشكيل أولويات الانتشار العسكري والتحالفات بما يضمن أن تظل الولايات المتحدة أحد الأعمدة الأساسية لاستقرار النظام الدولي في العقود القادمة.




