إيران وإسرائيل، هل تشعل جولة ثانية بعد “حرب الأيام الاثني عشر” إقليم الشرق الأوسط

تعبيرية عن الصراع (خاص – العربية.نت)

 

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة

منذ أن سكتت المدافع في الرابع والعشرين من يونيو حزيران ألفين وخمسة وعشرين، بعد اثني عشر يوماً من الحرب المباشرة بين إيران وإسرائيل، والمنطقة تعيش على إيقاع سؤال واحد: هل كانت تلك الجولة الضارية هي النهاية، أم مجرد “مناورة تمهيدية” لجولة أكبر هدفها هذه المرة ليس مجرد إلحاق الأذى بالمشروع النووي الإيراني، بل القضاء على ما يُنظر إليه في تل أبيب وواشنطن ودول إقليمية عديدة كخطر محتمل يجب استئصاله نهائياً؟

الحرب الأخيرة المعروفة إعلاميا ب “حرب الأيام الاثني عشر”، بدأت عندما أطلقت إسرائيل عملية واسعة حملت اسم “الأسد الصاعد”، استهدفت عشرات المواقع النووية والعسكرية داخل إيران في ضربة مفاجئة، شملت منشآت التخصيب في نطنز وفوردو ومجمع الأبحاث في أصفهان، إضافة إلى مواقع صاروخية وقواعد للحرس الثوري واغتيال عدد من القادة العسكريين والعلماء النوويين البارزين. أظهرت التقارير المفتوحة التي جمعها باحثون ومراكز دراسات أن سلاح الجو الإسرائيلي نفذ خلال الساعات الأولى وحدها عدة موجات من الغارات بمئات الطائرات والقنابل الموجهة على أكثر من مئة هدف، وأن العملية افتُتحت أيضاً بعمليات تخريب إلكترونية وميدانية لتعمية الدفاعات الجوية الإيرانية.

ردّت إيران على هذا الهجوم بسيل من الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة؛ و أشارت التقديرات إلى أكثر من خمسمائة صاروخ وأكثر من ألف مسيّرة أطلقت نحو إسرائيل خلال أيام معدودة، استهدفت مواقع عسكرية وبنى تحتية وبلدات مدنية، وأوقعت قتلى وجرحى في صفوف المدنيين، رغم أن جزءاً كبيراً منها أُسقط بواسطة منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية والأميركية والفرنسية المنتشرة في المنطقة. وفي اليوم العاشر من الحرب دخلت الولايات المتحدة بشكل مباشر عندما نفذت قاذفات الشبح ضربات على ثلاثة مواقع نووية إيرانية، قبل أن تُتوَّج الضغوط الدولية باتفاق وقف إطلاق النار في الرابع والعشرين من يونيو / حزيران.

على مستوى البرنامج النووي، لا خلاف على أن الضربة كانت موجعة لإيران؛ إذ تشير تقارير “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” وصور الأقمار الصناعية التي حللتها مراكز مثل “معهد العلوم والأمن الدولي” إلى أضرار بالغة في منشأتي نطنز وفوردو وفي ورشة أجهزة الطرد المركزي في أصفهان، مع تدمير عدد كبير من أجهزة الطرد العاملة وتعطّل جزء مهم من البنية التحتية. لكن هذه التقارير نفسها تشير إلى أن الضرر لم يكن قاضياً؛ إذ يُرجَّح أن إيران نقلت جزءاً من مخزون اليورانيوم المخصب قبل الضربة، وأن لديها القدرة على إعادة تركيب أجهزة طرد جديدة في مواقع أخرى، ما دفع محللين إلى القول إن الضربة أعادت البرنامج إلى الوراء أشهراً أو بضعة أعوام، لكنها لم تُنهِه بالكامل.

الأخطر من ذلك أن طهران، و رداً على الحرب، علّقت عملياً التعاون مع مفتشي “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” ومررت في برلمانها قانوناً جديداً يقيّد وصولهم إلى المنشآت، ما جعل المجتمع الدولي أعمى تقريباً حيال ما يجري داخل البرنامج بعد يونيو / حزيران. أظهرت تقارير إعلامية حديثة نشاطاً متجدداً في بعض المواقع المتضررة، مع حديث عن إعادة بناء ورش التخصيب أو إنشاء قدرات أكثر تشتتاً وسرية، وهو ما يزيد القلق بدل أن يخففه.

في هذا المناخ، جاءت تصريحات الرئيس الأميركي “دونالد ترامب” لتزيد الجدل؛ ففي أكثر من مناسبة بعد الحرب وصف البرنامج النووي الإيراني بأنه اختفى أو تم سحقه، ملوّحاً بأن أي محاولة إيرانية لإعادة تشغيله ستُواجَه بـ“إبادة” للمكونات التي تبقت، وداعياً طهران إلى العودة إلى طاولة المفاوضات إذا أرادت تجنب موجة جديدة من الضربات. تُظهِر هذه اللغة رغبة في تقديم الحرب السابقة بوصفها انتصاراً حاسماً، لكنها تتصادم مع تشخيصات أكثر حذراً صادرة عن مراكز مثل “مؤسسة راند”، ترى أن الضغوط الاقتصادية والسياسية وحدها لم تكن كافية لإجبار إيران على التخلي عن مشروعها، وأن القوة العسكرية قادرة على الإبطاء والتعطيل لكنها لا تغيّر بالضرورة نية النظام ما لم تُرفَق بمسار سياسي واضح.

و على الجانب الإسرائيلي، تنظر الحكومة وقطاع واسع من النخبة الأمنية إلى ما بعد حرب الأيام الاثني عشر من زاوية مختلفة؛ فالعقيدة العسكرية التي كرّستها تصريحات رسمية إسرائيلية منذ أعوام تقوم على أن امتلاك إيران سلاحاً نووياً يُعد تهديداً وجودياً لا يمكن التعايش معه. لذلك يُقرأ كثير من النقاش الدائر اليوم في إسرائيل كما تعكسه مقالات تحليلية وتقارير في الصحافة الإسرائيلية حول ما إذا كانت الضربة السابقة كافية فعلاً أم أنها تحتاج إلى استكمال في جولة جديدة إذا اقتربت إيران مجدداً من العتبة النووية. و تتقاطع هذه النقاشات مع القلق العميق لدى دول عربية خليجية وشرق أوسطية من أن تتحول القدرة النووية الإيرانية، حتى وإن بقيت تحت عتبة السلاح، إلى أداة ابتزاز استراتيجي تُستخدم لفرض وقائع سياسية وأمنية في الخليج وشرق المتوسط.

في المقابل، يقدّم المسؤولون الإيرانيون رواية مغايرة تماماً؛ فوزير الخارجية ومسؤولون بارزون كرروا في تصريحات لوسائل إعلام دولية أن البرنامج النووي الإيراني سلمي بالكامل، وأنه يشكل ضمانة لحقوق إيران العلمية والتنموية في مواجهة ما يصفونه بالهيمنة الغربية والعقوبات غير القانونية، وأن الضربات العسكرية لن تدفع طهران إلى الاستسلام بل إلى مزيد من الصلابة وربما إلى إعادة النظر في سياستها النووية إذا فقدت الثقة في جدوى التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية”ومجلس الأمن. هنا يصبح البرنامج أداة داخلية أيضاً؛ فهو يُسوَّق للجمهور الإيراني بوصفه رمزاً للكرامة والسيادة، ما يجعل التراجع عنه كلياً مكلفاً سياسياً للنظام.

الحديث عن حرب مقبلة بين إيران وإسرائيل لا يأتي فقط من خيال الصحافة؛ حيث نشرت مراكز أبحاث مثل “معهد دراسة الحرب” و“مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات” في الأشهر الأخيرة خرائط تفاعلية واستشرافات تتناول طبيعة الضربات التي نُفذت في يونيو/حزيران، وتطرح سيناريوهات لما قد يحدث إذا قررت إسرائيل أو الولايات المتحدة توجيه “ضربة ثانية” تهدف إلى تصفية ما تبقى من البنية النووية والصاروخية الإيرانية. هذه الدراسات تذكّر بأن الحرب السابقة أثبتت قدرة الطرفين على إلحاق أذى كبير ببعضهما البعض: آلاف الجرحى ومئات القتلى في إيران، عشرات القتلى وآلاف المصابين في إسرائيل، آلاف النازحين من مناطق متضررة في البلدين، وهجمات بالصواريخ والمسيّرات طالت قواعد أميركية ومناطق في دول عربية مجاورة.

و لن يقتصر امتداد أي مواجهة جديدة على ضربات جوية متبادلة؛ فالحرب السابقة شهدت دوراً نشطاً لقوى حليفة لإيران مثل جماعة الحوثيين في اليمن وميليشيات في العراق وسوريا، إلى جانب توتر على حدود لبنان مع إسرائيل. هذا التشابك يطرح سيناريوهات لحرب أوسع تمتد من الخليج إلى شرق المتوسط إذا انفلت العقال، مع ما يعنيه ذلك من تهديد مباشر لممرات الطاقة والتجارة العالمية. تجربة حرب الأيام الاثني عشر أظهرت أن الأسواق استجابت سريعاً لأي إشارات تصعيد، سواء في أسعار النفط أو في مؤشرات الأسهم الإقليمية، رغم قصر مدة الحرب.

في هذا الإطار، تبدو “منظمة الأمم المتحدة” وأذرعها – من “مجلس الأمن” إلى “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” – أمام اختبار صعب. فمن جهة، هناك انتقادات واسعة بأن المجلس عجز عن منع اندلاع الحرب الأخيرة أو حتى عن صياغة موقف موحّد منها، في ظل الانقسام الحاد بين القوى الكبرى، ومن جهة أخرى تُتَّهم طهران بأنها هي من قوّض آليات الرقابة الدولية بتقييد عمل المفتشين ورفع مستوى التخصيب قبل الحرب وبعدها. وبين هذا وذاك، تبرز الحاجة إلى مبادرة دولية جديدة تعيد البرنامج النووي إلى مسار تفاوضي وربما إلى صيغة اتفاق محدث تضمن قيوداً صارمة وشفافة على التخصيب، مقابل تخفيف مدروس للعقوبات وتوفير ضمانات أمنية متبادلة، بما يقلّل من إغراء اللجوء إلى “حل عسكري نهائي” من أي طرف.

أما “منظمة البلدان المصدرة للنفط أوبك” وتحالف “أوبك بلس”، وإن لم يكونا طرفاً سياسياً مباشراً، فإن لهما مصلحة حيوية في منع انزلاق المنطقة إلى حرب مفتوحة، لأن أي ضربة واسعة للمنشآت الإيرانية أو لخطوط الملاحة في الخليج ستنعكس فوراً على أسعار النفط واستقرار الأسواق، وربما على اقتصادات الدول المنتجة نفسها على المدى الطويل. تقارير “وكالة الطاقة الدولية” و“صندوق النقد الدولي” تحذر منذ سنوات من أن صدمات أسعار الطاقة الناتجة عن الحروب في الشرق الأوسط تؤثر سلباً في النمو العالمي، وتُضعف الطلب على النفط نفسه مع تسارع التحول إلى مصادر بديلة.

في المحصلة، تبدو معادلة حرب لإزالة الخطر بالكامل أقل بساطة بكثير مما توحي به الشعارات. صحيح أن الضربة العسكرية قد تُبطئ البرنامج النووي الإيراني وتوجّه رسالة ردع قوية، لكن التجربة تُظهر أيضاً أنها قد تدفع طهران إلى تعميق السرية، وتعليق التعاون مع الرقابة الدولية، وتعزيز تحالفاتها مع قوى أخرى، وربما تسريع سعيها إلى امتلاك قدرة نووية كامنة أكثر من ذي قبل، في إطار منطق الضمانة القصوى للبقاء، كما يحاجج عدد من الباحثين.

بين حرب شاملة مدمرة، وحالة لا حرب ولا سلام تظل فيها المنطقة على حافة الانفجار، وبين محاولة صعبة لإعادة بناء مسار تفاوضي حقيقي يشمل الملف النووي والصاروخي والدور الإقليمي لإيران، تقف دول الشرق الأوسط ومعها القوى الكبرى أمام مفترق طرق جديد. ما بعد “حرب الأيام الاثني عشر” ليس كما قبلها؛ فإيران خرجت مجروحة لكنها ليست منهارة، وإسرائيل أثبتت قدرتها على الضرب لكنها لم تغلق الملف، والولايات المتحدة أعلنت استعدادها لاستخدام القوة لكنها تدرك كلفة الانزلاق إلى حرب كبرى. وفي ظل برنامج نووي ما زال يُستخدم في نظر كثيرين في المنطقة أداة ضغط وتهديد، تبقى المهمة الأصعب هي إيجاد صيغة تضمن أمن الجيران واستقرار النظام الدولي من دون أن تفتح أبواباً جديدة لجحيم حرب قد تكون هذه المرة أطول من اثني عشر يوماً وأكثر كلفة على الجميع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى