بعد أشهر من متاهات الغرق في البحر الأحمر، طاقم “إيترنيتي سي” الى الحرية

EPA

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة

بعد نحو خمسة أشهر على غرق السفينة التجارية “إيترنيتي سي” في مياه البحر الأحمر إثر هجوم شنّه الحوثيون، عادت قضية هذه الباخرة اليونانية التشغيل إلى واجهة المشهد البحري والأمني مع إعلان الإفراج عن أفراد طاقمها الذين احتُجزوا في مناطق خاضعة لسيطرة الجماعة في اليمن، في خطوة بدت للوهلة الأولى إنسانية، لكنها تحمل في طياتها رسائل سياسية وأمنية تمتد من صنعاء إلى أثينا وواشنطن وعواصم المنطقة. فالسفينة، التي ترفع علم ليبيريا وتديرها شركة «كوسموشِب مانجمنت» اليونانية، كانت قد تعرّضت في يوليو الماضي لسلسلة من الضربات المتتالية بطائرات مسيّرة انتحارية وزوارق مفخخة وقذائف “آر بي جي”، قبل أن يضطر الطاقم إلى مغادرتها لتغرق لاحقًا في واحد من أخطر الحوادث التي شهدتها الملاحة في البحر الأحمر منذ تصاعد الهجمات على السفن التجارية عام 2023.

وفي تفاصيل ما جرى هذه المرة، تؤكد مصادر بحرية ودبلوماسية أنّ المجموعة التي أفرج عنها الحوثيون تضم أحد عشر شخصًا: تسعة بحارة فليبينيين، إضافة إلى بحّار روسي وآخر هندي، كانوا ضمن من نجوا من الغرق لكنهم وقعوا في قبضة الجماعة بعد عملية إنقاذ نفذتها جهات مختلفة في أعقاب الهجوم. وقد جرى نقل هؤلاء إلى سلطنة عُمان، التي لعبت كعادتها دور الوسيط الهادئ، حيث يُنتظر أن يكملوا من هناك رحلة العودة إلى بلدانهم أو إلى دول تستقبلهم مؤقتًا بترتيبات مع شركات التشغيل والهيئات القنصلية.
لم يأتِ هذا التطور بمعزل عن ضغوط دولية متراكمة؛ فالولايات المتحدة، عبر بعثتها في اليمن، كانت قد اتهمت الحوثيين صراحة بـ “اختطاف” هؤلاء البحّارة، وطالبت بإطلاق سراحهم فورًا ومن دون قيد أو شرط، معتبرة أن احتجازهم بعد إنقاذهم من الغرق يتجاوز حدود أي مبرر عسكري أو أمني، ويمسّ بقواعد أساسية في القانون الدولي الإنساني. وتابعت أثينا من جهتها الملف عن كثب، ليس فقط انطلاقًا من مسؤوليتها عن سفينة تُشغَّل من شركة يونانية، بل أيضًا لأن الهجوم على “إي ترنيتي سي” سبقه وتلاه استهداف سفن يونانية أخرى في الممرات نفسها، ما جعل اليونان في مرمى أزمة تتجاوز قدرات شركة تشغيل أو هيئة موانئ إلى مستوى أمن الملاحة في واحد من أهم الشرايين البحرية في العالم.
ورغم الطابع الإنساني الظاهر في مشهد البحّارة الخارجين من اليمن إلى عُمان، فإنّ قصة “إي ترنيتي سي” لا يمكن فهمها بعيدًا عن السياق الأوسع لحملة الحوثيين على السفن التجارية في البحر الأحمر وخليج عدن. فمنذ نوفمبر 2023 شنّت الجماعة، المتحالفة مع إيران، أكثر من مائة هجوم على سفن تجارية وناقلات، استهدفت في معظمها سفنًا قيل إن لها صلة بإسرائيل أو بوجهات مرتبطة بالاقتصاد الإسرائيلي، تحت شعار “التضامن مع الفلسطينيين في حرب غزة”. وقد أدت هذه الهجمات إلى تحويل جزء كبير من حركة التجارة العالمية بعيدًا عن البحر الأحمر وقناة السويس، مع ما يعنيه ذلك من كلفة إضافية على زمن الرحلات وأسعار الشحن والتأمين.
و كانت “إيترنيتي سي” نفسها هدفًا مركزيًا في موجة التصعيد تلك؛ فقد تعرضت في 7 و8 يوليو لسلسلة من الضربات بطائرات مسيّرة وزوارق غير مأهولة محمّلة بالمتفجرات وقذائف أُطلقت من زوارق سريعة، بينما كانت تعبر الممر البحري في طريقها شمالًا. وقد أسفر الهجوم عن مقتل أربعة من أفراد الطاقم وإصابة آخرين، واضطر الباقون إلى مغادرة السفينة تحت وابل من النيران قبل أن تُعلن جهات مراقبة الملاحة غرقها في اليوم التالي قبالة سواحل الحديدة. وبينما تمكنت عمليات إنقاذ دولية من انتشال عدد من البحّارة ونقلهم إلى موانئ في السعودية ودول أخرى، أعلن الحوثيون لاحقًا أنهم “أنقذوا” مجموعة أخرى من الطاقم ونقلوها إلى “مكان آمن”، في رواية رفضتها واشنطن وعواصم أوروبية رأت في الأمر عملية احتجاز رهائن بكل ما للكلمة من معنى.
اللافت أنّ الإفراج عن طاقم “إيترنيتي سي” جاء بعد سلسلة من الإشارات المتبادلة في الإقليم، سواء فيما يتعلق بوساطات إنسانية قادتها عُمان وبلدان أخرى، أو في ظل نقاش أوسع حول مستقبل أمن الملاحة في البحر الأحمر، حيث باتت شركات الشحن العالمية تراجع حساباتها بعناية قبل أن تقرر إرسال سفنها عبر هذا الممر، مفضِّلة في كثير من الأحيان الدوران حول رأس الرجاء الصالح رغم الكلفة الزمنية والمالية الإضافية. كما يأتي هذا التطور في وقت تسعى فيه أطراف دولية إلى خفض منسوب التوتر في مسارح الصراع المرتبطة بحرب غزة، من لبنان إلى اليمن، تجنبًا لانزلاق المنطقة إلى مواجهة أوسع يصعب ضبطها.
ولعل ما يزيد الصورة تعقيدًا أنّ “إيترنيتي سي” لم تكن السفينة الوحيدة التي دفعت ثمن هذه الحملة؛ فقبل أيام فقط من استهدافها، كانت سفينة أخرى تُشغَّل أيضًا من شركة يونانية وترفع علم ليبيريا، هي “ماجيك سيز”، قد تعرضت لهجوم عنيف قبالة الساحل اليمني، استخدمت فيه الزوارق الصغيرة وقذائف “آر بي جي” والصواريخ، ما أجبر طاقمها على مغادرتها قبل أن تغرق هي الأخرى لاحقًا. حينها تمكّن زورق عابر من إنقاذ أفراد الطاقم ونقلهم إلى جيبوتي، لكن الرسالة التي قرأها كثيرون في تتابع الهجومين على “ماجيك سيز” و”إيترنيتي سي” كانت واضحة وهي أن: الممر البحري الذي كان يُنظر إليه حتى وقت قريب بوصفه “ممرًا آمنًا تحت الحماية الدولية” لم يعد كذلك بالدرجة نفسها، وأن هوية ملاك السفن أو أعلامها لم تعد كافية لحمايتها من الاستهداف إذا صُنِّفت، في قراءات الحوثيين، ضمن “السفن المرتبطة بالعدو” (حسب توصيفهم).
من زاوية أخرى، يسلّط الإفراج عن الطاقم، الضوء على البعد الإنساني المغيّب في كثير من الأحيان عن النقاشات المتعلقة بأمن الملاحة؛ فالبحّارة الذين وجدوا أنفسهم فجأة وسط جحيم البحر والقصف ليسوا صانعي قرار ولا طرفًا في النزاعات السياسية والعسكرية، بل هم مجرد عمال بحر يجوبون الممرات البحرية بحثًا عن لقمة العيش. وقد تحوّل هؤلاء بين ليلة وضحاها إلى أرقام في بيانات عسكرية منها: قتلى، ومفقودون، ومحتجزون، وناجون. ووراء كل رقم قصة عائلة في مانيلا أو موسكو أو نيودلهي تنتظر اتصالًا قصيرًا يطمئنها إلى أن ابنها لا يزال على قيد الحياة، أو تتلقى خبرًا باردًا عن “إعلان وفاة مرجّحة” في حادثٍ وقع بعيدًا عن العيون.
في الوقت نفسه، لا يمكن تجاهل أن ملف البحّارة المحتجزين تحوّل إلى ورقة ضغط متبادلة؛ فبينما وصفت الحركة المصنفة عالميا ب “الميليشيا” احتجازهم بأنه إجراء “أمني” لحين “استكمال التحقيق” فيما قالوا إنه “نشاط معادٍ” للسفينة، استخدمت دول غربية هذا الملف لتشديد لهجتها ضد الجماعة، ولإعادة طرح موضوع تصنيف بعض أجنحتها على لوائح العقوبات أو الإرهاب، وربطت بين الإفراج عنهم وبين أي حديث عن تسهيلات إنسانية أو سياسية يمكن أن تُمنح لمناطق سيطرة الحوثيين. وقد يُقرأ الإفراج في هذا التوقيت، من هذه الزاوية، كجزء من مقايضات أكبرلا تظهر تفاصيلها كاملة في العلن، لكنها تعكس إدراك كل طرف لحدود ما يمكن كسبه أو خسارته في لعبة شد الحبال الإقليمية.
ومهما كانت الحسابات الكامنة وراء هذه الخطوة، فإنّ الثابت يبقى أن البحر الأحمر دخل منذ أكثر من عامين مرحلة جديدة تختلف عما سبقها؛ مرحلة بات فيها الممر البحري ساحة رسائل سياسية وعسكرية بقدر ما هو ممر للتجارة العالمية، وباتت فيها أسماء السفن مثل “ماجيك سيز” و”إيترنيتي سي” تُذكَر لا في نشرات الشحن وأسعار البضائع فحسب، بل أيضًا في تقارير الخسائر والرهائن والوساطات. وبينما يعود البحّارة الأحد عشر إلى عائلاتهم، يبقى سؤال أمان الملاحة في هذا الشريان الحيوي معلَّقًا، تنتظر إجابته شركات التأمين قبل أصحاب السفن، وتراقبه عواصم المنطقة بقلق، مدركة أن أي خلل إضافي في هذا الممر لن يظل حبيس المياه الإقليمية، بل سينعكس على أسعار السلع وسلاسل الإمداد واستقرار الاقتصادات من المتوسط إلى المحيط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى