كواليس المصافحة السورية الأمريكية في البيت الأبيض… هل تعيد الزيارةٌ كتابة مستقبل الشام بإشراف أمريكي؟

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة
بدأت الحكاية من مشهدٍ غير مألوف: موكبٌ رسمي يعبر إلى مقرّ الحكم في العاصمة، والكاميرات تلتقط مصافحةً بين الرئيس الأمريكي ومن سمي قريبا الرئيس السوري؛ زيارةٌ تكسر قطيعةً طويلة وتفتح بابًا لمفاوضاتٍ كان يُظنّ أنها مستحيلة. خلف الصورة، يعمل البروتوكول بإيقاعٍ محسوب: توقفٌ خاطف أمام الصحافة، ثم اجتماعٌ مغلق، فصياغةُ رسائل دقيقة إلى الداخل والخارج بأن صفحةً جديدة تُقلَّب بحذر، وأن الملف السوري يعود إلى الطاولة على نبرةٍ مختلفة.
ولفهم ما ظهر في العلن، لا بد من قراءة ما تغيّر في العمق: انتقالٌ تدريجي من عزلةٍ خانقة إلى سياسةِ انخراطٍ مشروط، ونقلةٌ أوسع في خرائط التحالفات حيث تلتقي الجغرافيا بالتكنولوجيا ويُعاد تعريف الأمن عبر سلاسل الإمداد، والرقاقات، والممرات البحرية، ومراكز الحوسبة. عند هذه العتبة يتبدّل حساب المصالح: لم يعد الكلام عن شعاراتٍ عامة، بل عن كلفة المخاطر وميزان النفوذ وكيفية إغلاق ثغراتٍ فتحتها سنوات الحرب.
في الكواليس، يُستخدم الاقتصاد مفتاحًا للسياسة: تخفيفٌ مدروس لبعض القيود لإعطاء متنفسٍ محسوب للاقتصاد السوري من دون العبور فوق الخطوط الحمراء المرتبطة بالحلفاء الإقليميين والدوليين. في المقابل، تُطرح حِزَمٌ أمنية وسيادية: بحثُ ترتيباتٍ تخصّ القوى العسكرية داخل البلاد، ومؤشراتٌ إلى إعادة وصل القنوات الدبلوماسية. تبدو هذه الخطوات تقنيةً في ظاهرها، لكنها في منطق «الهندسة التحالفية» تُعيد تركيب الثقة وتوزيع الأوزان.
وخلف الأبواب المغلقة، تعمل دوائر القرار على خريطةٍ دقيقة للإعفاءات والمسارات: وزارة الخزانة تدقّق في التفاصيل، ووزارة الخارجية تسوّق الفكرة باعتبارها نافذةَ اختبارٍ لا شيكًا على بياض. الرسالة مزدوجة: انفتاحٌ على الممكن الجديد في دمشق، وتحذيرٌ واضح من أي انزلاقٍ يعيد تدوير اقتصاد الحرب أو يبدّل ميزان الردع في الإقليم. كل كلمةٍ في البيان تُراجع، وكل موعدٍ يُضبط كي يوازن بين جمهورٍ داخليّ حساس وشبكةِ شركاء تحتاج إلى يقين.
أما على مستوى الصورة، فالمشهد محكومٌ بعناية: الرئيس الأمريكي يريدها علامةَ مرونةٍ لا تنازل، والرئيس السوري يقدّم نفسه رجلَ القطيعة مع زمن الحرب والساعي إلى استعادة موقع بلاده في النظام الدولي. بين هاتين الرسالتين، تعمل فرق التحضير على خفض المفاجآت ورفع العائد: لقاءاتٌ تمهيدية، مسودّاتٌ تتبدّل كلمةً بكلمة، وجدولةٌ تحمي المضمون من ضجيج اللحظة.
وفي الإقليم، تُقرأ الإشارات بسرعةٍ لافتة: شركاء واشنطن يرحّبون بكل ما يخفّف الأعباء الأمنية والاقتصادية، لكنهم يتمسّكون بخطوطٍ فاصلة تتعلق بخريطة النفوذ وملفّ الحدود وتدفقات السلاح والمخدرات. لذلك تُطرَح صيغة «سلامٍ اقتصاديّ مشروط» كجسرٍ إلى ترتيباتٍ أمنية أوسع، من مكافحة فلول الإرهاب إلى إعادة بناء مؤسسات الدولة بعيدًا عن اقتصاد الظل، مع تأكيدٍ أمريكي على أن العودة إلى العزلة تبقى خيارًا حاضرًا إذا انحرف المسار.
ولأن القيادة تُختبر في التفاصيل لا في الشعارات، يجري تحويل الحدث من صورةٍ استثنائية إلى عمليةٍ قابلة للقياس: تقدمٌ ملموس في الممرات الإنسانية، خطواتٌ محددة في توحيد السلاح الشرعي، وضماناتٌ تمنع تحويل أي انفتاحٍ اقتصادي إلى وقودٍ لنزاعاتٍ جديدة. هكذا يُراد للقاء أن يكون بدايةَ مسارٍ لا نهايةَ ضوءٍ في آخر النفق.
الخلاصة أنّ ما حدث ليس لقطةً تنطفئ بانطفاء الكاميرا، بل اختبارٌ طويل لثلاث مقاربات متوازية: أن تقود واشنطن الانخراط من موقع الشروط لا موقع المجاملة، وأن تستثمر دمشق الفرصة لطيّ إرث الحرب لا لتثبيت اقتصادها، وأن تعيد العواصم الإقليمية اكتشاف الممكن بين أقصى العداء وأقصى السذاجة. فإذا نجح الامتحان، وُضِعت لبناتُ هندسةٍ أمنية واقتصادية تُعيد سوريا إلى الخريطة من دون خلخلة أساسات النظام الدولي؛ وإذا تعثّر، عادت لعبة الشدّ والجذب بما تحمله من كلفةٍ على الجميع. وفي نهاية المطاف، يهمس مخضرمٌ وهو يغلق ملف الاجتماع: الدبلوماسية ليست صفقةً واحدة، بل مسارٌ تُكمّله خطواتٌ صغيرة… شرط أن تُقاس.




