يعكس قوة شراكة تكسر خرافة السيطرة الإعلامية

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة
أثارت تقارير وبرامج حوارية، في الأشهر الأخيرة جدلًا واسعًا حول الاستثمارات الخليجية في الولايات المتحدة، خصوصًا تلك المرتبطة بقطاع الإعلام والترفيه في هوليوود. مثلًا تناول تقرير تلفزيوني على دويتشه فيله عربية ضمن برنامج مسائية، موضوع اخذ من العناوين: “استثمار خليجي ضخم في هوليوود.. استحواذ اقتصادي أم نفوذ سياسي؟” بطريقة عكست الشكوك السائدة لدى بعض الأوساط الإعلامية في أوروبا بشأن أي تحرّك مالي عربي في الغرب. بينما أعادت تقارير أخرى على منصات عربية وغربية مختلفة، أعادت طرح السؤال نفسه بصيغ مختلفة: هل تسعى الدول الخليجية متمثلة في: المملكة العربية السعودية و دولة الامارات العربية المتحدة و قطرإلى شراء النفوذ عبر الإعلام، أم أن الأمر لا يعدو كونه جزءًا من استراتيجية تنويع الاستثمارات والتحالفات مع الولايات المتحدة؟
إذا عدنا خطوة إلى الوراء وقرأنا الصورة من زاوية أوسع، سنجد أن الصحافة الاقتصادية العالمية ذاتها، من فايننشال تايمز وبلومبرغ إلى وول ستريت جورنال ونيويورك تايمز، تتناول هذه الصفقات في إطار مختلف نسبيًا: من حيث انها استثمارات سيادية تبحث عن عائد طويل الأجل في اقتصاد يعتبره كثيرون الأكثر استقرارًا وابتكارًا في العالم، وفي قطاعات واعدة مثل الترفيه والتقنية والذكاء الاصطناعي والإعلام الرقمي. و في تقارير بلومبرغ مثلًا يُشار إلى الصناديق السيادية الخليجية بوصفها من أكبر مصادر السيولة في الأسواق العالمية، وأنها باتت لاعبًا لا يمكن تجاهله في صفقات الاستحواذ الكبرى، سواء في أوروبا أو الولايات المتحدة أو آسيا، ما يعكس حقيقة أن التحالف الخليجي/الأميركي صار اقتصاديًا بقدر ما هو أمني وسياسي.
، يحاول الخطاب المشكِّك الذي يطل أحيانًا من بعض البرامج الحوارية على قنوات عربية مستقلة أو على منصات يوتيوب، تصوير هذه الاستثمارات كأنها محاولة للسيطرة على السردية الإعلامية العالمية، أو كأن واشنطن تسلِّم “ميكروفونها” لدول الخليج مقابل المال. غير أن الواقع القانوني والمهني في الولايات المتحدة، كما توضحه تحليلات قانونية نشرتها صحف مثل واشنطن بوست ونيويورك تايمز، يبيّن أن ملكية الحصص في شركات الإعلام الكبرى لا تعني تلقائيًا امتلاك حرية التحكم بالمحتوى، لأن هذه الشركات تخضع لقواعد حوكمة صارمة، ولمجالس إدارة متعددة الجنسيات، ولرقابة هيئات تنظيمية، فضلًا عن منافسة شرسة من مئات القنوات والمنصات الأخرى، من نتفليكس وديزني بلس إلى شبكات الأخبار الأميركية مثل “سي إن إن” و”فوكس نيوز” و”إم إس إن بي سي”.
من جهة الخليج، تتعاطى وسائل الإعلام المحلية الرسمية وشبه الرسمية -مثل الصحف الكبرى والقنوات الوطنية- مع هذه الملفات من زاوية أخرى؛ فهي تركز على أن التحالف مع الولايات المتحدة تطوّر من كونه تحالفًا أمنيًا يتعلّق بحماية إمدادات النفط والممرات البحرية، إلى شراكة أوسع في مجالات الاستثمار والبحث العلمي والتعليم والطاقة المتجددة. في تقارير تُبث عبر قنوات مثل العربية وسكاي نيوز عربية والشرق للأخبار، تُعرض أرقام التجارة والاستثمار المتبادل، وتُشار إلى أن الولايات المتحدة ما زالت أحد أهم شركاء الخليج في مجال التقنية والدفاع والجامعات والابتعاث، وأن دخول رأس المال الخليجي إلى قطاعات جديدة في الاقتصاد الأميركي هو تطوّر طبيعي لعلاقة تجاوزت مرحلة “المورد والمستهلك” إلى شراكة أكثر توازنًا.
اللافت أن بعض الأصوات النقدية في الإعلام العربي تعتمد في تشكيكها على مقالات رأي غاضبة منشورة في الصحافة الغربية نفسها؛ فتستشهد بتغريدة محلل في موقع بوليتيكو أو بتعليق لكاتب في مجلة ذا أتلانتيك، لكنها تُقدِّم ذلك للرأي العام العربي على أنه “اعتراف من الداخل الأميركي” بأن الهدف هو تدمير أوروبا أو السيطرة على الإعلام. بينما القراءة المتأنية لتلك المقالات -كما توضحها أحيانًا تقارير تصحيحية في بي بي سي أو حتى في نيويورك تايمز ذاتها- تكشف أنها آراء سياسية ضمن جدل داخلي أميركي/أوروبي، لا وثائق رسمية ولا بنودًا في استراتيجية الأمن القومي. و هنا يظهر الفرق بين دور الصحفي المهني الذي ينقل كل أطراف النقاش، وبين دور بعض المعلقين على يوتيوب الذين يقتطعون ما يخدم سرديتهم ويهملون ما عداه.
ومن الأهمية هنا تطرقي الى ذكر وسائل الإعلام بالاسم، لأنه يوضح أن الساحة ليست لونًا واحدًا؛ فحين ينشر موقع دويتشه فيله العربية تقريرًا يتساءل عن “نفوذ سياسي”، نجد في المقابل صحفًا أميركية مؤثرة مثل فايننشال تايمز وبلومبرغ ترى في الاستثمارات الخليجية عنصر استقرار في أسواق المال الأميركية والأوروبية، وتصفها أحيانًا بأنها “شريان حياة” لبعض الشركات المتعثرة. وحين تستضيف قنوات معارضة عربية ضيوفًا ينتقدون التحالف الخليجي/الأميركي بوصفه ارتهانًا، نجد على الجانب الآخر مقالات في الصحافة الخليجية وفي مراكز أبحاث أميركية محترمة -مثل مؤسسة كارنيغي أو مجلس العلاقات الخارجية- تؤكد أن الشراكة مع الخليج أصبحت ضرورة استراتيجية لواشنطن في عالم يتجه نحو تعدد الأقطاب، وأن دول الخليج نفسها أصبحت أكثر استقلالية في قرارها، وتُوازِن بين علاقاتها مع أميركا، والصين، وأوروبا، وروسيا.
كل هذا يعزّز فكرة أن التحالف الخليجي/الأميركي اليوم قائم على تبادل المصالح أكثر مما هو قائم على خطاب إعلامي واحد يفرضه طرف على الآخر. ما يُقدمه الإعلام المشكِّك ك “سيطرة على السردية” يمكن قراءته، في ضوء هذه الأمثلة، كجزء من معركة أوسع على تفسير التحولات العالمية: فهناك من يخاف من صعود رأس المال الخليجي في الغرب، فيلجأ إلى لغة “النفوذ” و”الهيمنة”، وهناك من يرحّب به كفرصة لتثبيت الاستقرار وجذب استثمارات طويلة الأجل. وبين هذا وذاك، تبقى الحقيقة أن المواطن العربي والخليجي لديه اليوم قدرة أكبر من أي وقت مضى على الوصول إلى مصادر متعددة: حيث يمكنه متابعة مسائية دويتشه فيله، ثم يقرأ ما تقوله فايننشال تايمز، ثم يسمع تحليلات قنوات أخرى اعلامية عربية، ويكوّن رأيه بنفسه.
وبالتالي فإن ذكر أسماء القنوات والصحف ومواقع الأخبار لا يهدف فقط إلى إضفاء زينة شكلية من المصداقية، بل إلى تذكير القارئ بأن الحديث عن التحالف الخليجي/الأميركي ليس حوارًا سريًا في غرف مغلقة، بل هو موضوع مفتوح يجري تناوله في دويتشه فيله وبي بي سي عربي وغيرهم من القنوات العربية، بالإضافة الى صحف نيويورك تايمز وواشنطن بوست وبلومبرغ وغيرهم. من يريد أن يفهم هذا التحالف يستطيع أن يراجع بنفسه ما يُكتب ويُقال في هذه المنابر، وسيجد أن الصورة أكثر تعقيدًا وإنصافًا من السردية المبسّطة التي تزعم أن كل شيء مجرد مشروع “للسيطرة على الإعلام”. التحالف في جوهره شبكة مصالح اقتصادية وسياسية وأمنية وثقافية، تحاول دول الخليج من خلالها أن تضمن مكانًا متقدمًا في نظام عالمي جديد، وتحاول الولايات المتحدة من خلالها أن تحافظ على شراكة مع منطقة محورية لاستقرار الطاقة والتجارة، وهذه حقائق يمكن التحقق منها في صفحات الاقتصاد قبل صفحات الرأي.




