حين ترقص التريليونات بين الأسهم والذهب: إلى أين تتجه بوصلة المستثمر في ٢٠٢٦؟

توقعات الأسواق في عام 2025 (تعبيرية من copilot)

 

نيويورك – زينة بلقاسم –

في أقل من أحد عشر شهراً من عام ٢٠٢٥، بدا وكأن العالم المالي يعيش حالة سباق محموم نحو الأعلى؛ فالقيمة السوقية لأسواق الأسهم العالمية قفزت إلى نحو ١٤٨ تريليون دولار مع نهاية أكتوبر، بحسب بيانات «بلومبرغ» التي جمعتها منصات تحليل متخصصة، أي بزيادة تقارب ٢٠ إلى ٢٣ تريليون دولار عن العام السابق، في واحدة من أضخم موجات إثراء للأصول المالية في التاريخ الحديث. هذه الطفرة لم تكن حكراً على سوق بعينها، لكنها حملت بصمة واضحة للأسهم الأميركية التي أضاف مؤشر «ستاندرد آند بورز ٥٠٠» وحده أكثر من ٩ تريليونات دولار إلى قيمته السوقية في ٢٠٢٥، بعد أن سجل مستوى قياسياً فوق ٦٩٠٠ نقطة، في وقت واصلت فيه مؤشرات أوروبا وآسيا الصعود بدورها، لتكتمل لوحة مكاسب عريضة عبر القارات.

وخارج عالم الأسهم، كانت المعادن الثمينة تحفر لنفسها قصة لا تقل إثارة. الذهب، الذي اعتاد أن يتحرك ببطء وحساب، تحوّل هذا العام إلى نجم صاخب؛ إذ تجاوز سعر الأونصة حاجز ٤٢٩٠–٤٣٣٠ دولاراً في عدة جلسات بين أكتوبر وديسمبر، محققاً مكاسب تقارب ٦٤–٦٦ في المائة منذ بداية العام، في أقوى أداء سنوي له منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، كما توثق تقارير صادرة عن مواقع رصد الأسعار ومنصات مثل «آي بي جا» و«أموال الغد» وتقارير تحليلية متخصصة. هذه القفزة دفعت القيمة الإجمالية للذهب المحتفظ به في صناديق المؤشرات والبنوك المركزية والمستثمرين الكبار إلى الارتفاع بمئات المليارات من الدولارات خلال أشهر قليلة، مع دخول لاعبين جدد إلى السوق وتعزيز البنوك المركزية – خصوصاً في آسيا والشرق الأوسط – لمشترياتها كجزء من استراتيجية تنويع الاحتياطيات بعيداً عن الدولار.

لكن الذهب، رغم كل ذلك، لم يكن صاحب القفزة الأكبر؛ فالفضة خطفت الأضواء كما لم تفعل منذ عقود. فمنذ بداية ٢٠٢٥ وحتى منتصف ديسمبر، قفز سعر أونصة الفضة من نحو ٢٩ دولاراً إلى مستويات بين ٦٤ و٦٦ دولاراً، أي مكاسب تقارب ١٢٠ إلى ١٢٨ في المائة، في موجة صعود وصفها محللون في مواقع متخصصة مثل «غولد سيلفر» و«تريدينغ إيكونوميكس» ووسائل إعلام مالية آسيوية بأنها “تاريخية” بكل المقاييس. هذا الارتفاع المزدوج في السعر والقيمة السوقية وضع سوق الفضة – بحجمه الاستثماري والصناعي – على أعتاب مكاسب تُحتسب بالتريليونات على مستوى التسعير الكلي للموجودات، من السبائك والعملات إلى الاستخدامات الصناعية في الألواح الشمسية والسيارات الكهربائية والإلكترونيات المتطورة.

خلف هذه الحركة العريضة في الأسهم والذهب والفضة، تقف السياسة النقدية الأميركية في قلب المسرح. فالاحتياطي الفدرالي، الذي رفع الفائدة بعنف في ٢٠٢٢ و٢٠٢٣ لكبح التضخم، بدأ منذ مطلع ٢٠٢٥ دورة خفض تدريجية، كان آخرها هذا الشهر عندما خفّض النطاق المستهدف لسعر الفائدة ربع نقطة مئوية إلى ٣,٥–٣,٧٥ في المائة، كما أكد بيانه الأخير. هذا القرار جاء وسط انقسام داخل لجنة السياسة النقدية بين من يرى أن التضخم ما زال خطراً حاضراً ومن يعتبر أن بوادر التباطؤ في النمو وسوق العمل تستدعي تسريع وتيرة التيسير. لكن النتيجة العملية واحدة: تكلفة الاقتراض بالدولار أصبحت أقل بكثير مما كانت عليه في ذروة التشديد، من دون أن تهبط إلى مستويات “المال المجاني” التي عرفها العالم بعد أزمة ٢٠٠٨.

هذه التركيبة – فائدة أقل لكنها ما زالت إيجابية، وتضخم متراجع لكن ليس منتهياً، واقتصاد أميركي يحافظ على نمو أعلى من متوسط الاقتصادات المتقدمة – هي ما تغذّي شهية المستثمرين العالميين. فبحسب «صندوق النقد الدولي»، من المتوقع أن يسجّل الاقتصاد العالمي نمواً يبلغ ٣٫٢ في المائة في ٢٠٢٥، يتراجع قليلاً إلى ٣٫١ في المائة في ٢٠٢٦، مع نمو للاقتصادات المتقدمة بنحو ١٫٥ في المائة، ويفوق ٤ في المائة في الاقتصادات الناشئة والنامية. هذه الصورة تعني أن النمو مستمر، لكنه ليس كاسحاً، ما يجعل من الأصول الأميركية – بأسواقها العميقة وشركاتها التكنولوجية – خياراً مفضلاً، ومن الذهب والفضة أداة مريحة للتحوّط ضد أي مفاجآت سلبية.

تقديرات مؤسسات بحثية كبرى تؤطر هذه المزاجات بأرقام محددة؛ فبحسب تقارير «جيه بي مورغان تشيس» حول الأسواق والأسهم، ما زال من المتوقع أن تحقق أسهم الشركات الأميركية نمواً في الأرباح بمعدلات مزدوجة الرقم، بل توقّع البنك في منتصف العام أن يغلق مؤشر «ستاندرد آند بورز ٥٠٠» عام ٢٠٢٥ قرب مستوى ٦٠٠٠ نقطة بدعم من نمو أرباح شركات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، قبل أن يتجاوز المؤشر بالفعل هذه التوقعات ويصل إلى مشارف سبعة آلاف نقطة في ديسمبر. أما على مستوى الأسواق العالمية، فتشير تقارير «كيه بي إم جي» الفصلية إلى أن أسهم العالم واصلت تحقيق مكاسب متينة في الربع الثالث من ٢٠٢٥، مع تحسّن معنويات المستثمرين بفضل إشارات واضحة إلى مزيد من خفض الفوائد من جانب البنوك المركزية الكبرى، رغم استمرار التفاوت في الأداء بين المناطق والقطاعات.

الذهب حظي بدوره باهتمام خاص من المؤسسات الاستثمارية. تقرير لوكالة «رويترز» أشار إلى أن عام ٢٠٢٥ كان الأقوى للذهب منذ أزمة النفط عام ١٩٧٩، مع ارتفاع السعر إلى مستويات قياسية فوق ٤٣٨٠ دولاراً، مدفوعاً بمشتريات قياسية من البنوك المركزية وتحوّط المستثمرين من عجز الموازنات الأميركية وتوترات جيوسياسية ممتدة. وفي ما يخص ٢٠٢٦، تتقاطع توقعات عدد من البنوك الاستثمارية الكبرى على صورة متفائلة نسبياً؛ فـ«جيه بي مورغان تشيس» و«بنك أوف أمريكا» و«ميتالس فوكس» يتحدثون عن إمكانية وصول الذهب إلى حدود ٥٠٠٠ دولار للأونصة إذا استمر الطلب الاستثماري والتحوّط من مخاطر الديون والعملات بهذا الزخم.

بنوك أخرى تتبنّى سيناريو أكثر تحفظاً، وإن بقي إيجابياً في المجمل؛ فـ«مورغان ستانلي» يتوقع أن تتباطأ وتيرة صعود الذهب في ٢٠٢٦ لتصل الأسعار إلى نحو ٤٨٠٠ دولار للأونصة بنهاية العام، مع احتمال تراجع جزء من الزخم في الفضة نتيجة انحسار النقص في المعروض الصناعي. وفي مقاربة شبيهة، تبقي «غولدمان ساكس» على توقعاتها بصعود الذهب بنحو ٦ في المائة إضافية حتى منتصف ٢٠٢٦ مقارنة بمستويات خريف ٢٠٢٥، مستندة إلى استمرار مشتريات البنوك المركزية وتزايد الطلب من المستثمرين المؤسسيين. أما «بنك إتش إس بي سي» و«ستاندرد تشارترد بنك»، فيرفعان توقعاتهما لمتوسط سعر الذهب في ٢٠٢٥ و٢٠٢٦ معاً، مشيرين إلى إمكانية بلوغ مستوى ٥٠٠٠ دولار للأونصة في أحد السيناريوهات المتفائلة إذا تواصلت عوامل التحوّط والطلب المؤسسي القوي.

الفضة، بدورها، حاضرة بقوة في هذه التوقعات؛ فمجموعة من التحليلات الصادرة عن منصات مالية آسيوية ودولية ترى أن مكاسب ٢٠٢٥ قد لا تتكرر بنفس الحدة في ٢٠٢٦، لكنها تؤكد أن الأساسيات الهيكلية – من الطلب على الطاقة الشمسية إلى استخدام الفضة في الإلكترونيات المتقدمة – ستبقي السعر في مستويات مرتفعة تاريخياً، حتى لو تعرّض السوق لموجات تصحيح. بعض هذه التقارير يتحدث عن إمكانية إضافة ٢٠ إلى ٢٥ في المائة إضافية لسعر الفضة خلال العام المقبل في سيناريوهات استمرار العجز في المعروض الصناعي، ما يعني توسعاً جديداً في القيمة السوقية لهذا المعدن الذي كان مهملاً لفترة طويلة.

في قلب هذه الخارطة، يأتي دور الذكاء الاصطناعي كقصة موازية لا يمكن تجاهلها؛ فأسهم الشركات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي – من شركات الرقائق الإلكترونية العملاقة إلى مزودي خدمات الحوسبة السحابية والبنية التحتية لمراكز البيانات – شكّلت، وفق تقارير مثل «ماكينزي على الاستثمار» و«جيه بي مورغان للأبحاث»، جزءاً كبيراً من عوائد مؤشرات الأسهم في ٢٠٢٥، ودفعت تقييمات القطاع التكنولوجي إلى مستويات قياسية. هذه المكاسب لم تنحصر في الولايات المتحدة وحدها؛ فأسواق في أوروبا وآسيا شهدت بدورها صعوداً لأسهم شركات تستفيد من موجة الاستثمار في البنية الرقمية والتحول إلى اقتصاد البيانات، ما جعل ٢٠٢٥ عاماً اجتمعت فيه قصة «التريليونات في الأسهم» مع «الطفرة في الذهب والفضة» تحت سقف سيولة عالمية تبحث عن ملاذات نمو وتحوط في آن واحد.

ومع اقتراب ٢٠٢٦، يبرز سؤال جوهري: هل ما شهدناه مجرد قمة عابرة، أم بداية مرحلة جديدة من إعادة رسم خريطة الأصول العالمية؟ الإجابة في ضوء ما تقدّمه المؤسسات الدولية تبدو مركّبة؛ فـ«صندوق النقد الدولي» يتحدث عن نمو عالمي متواضع لكن مستقر، و«كيه بي إم جي» ترصد استمرار قوة أسواق الأسهم رغم الضبابية، والبنوك الاستثمارية الكبرى – من «جيه بي مورغان تشيس» و«غولدمان ساكس» إلى «مورغان ستانلي» و«بنك أوف أمريكا» – ترجّح في سيناريوهاتها الأساسية مزيداً من المكاسب في الأسهم والمعادن الثمينة، ولو بوتيرة أهدأ من سباق ٢٠٢٥، مع تحذير واضح من أن ارتفاع التقييمات وأسعار الأصول يجعل أي صدمة مفاجئة – سياسية كانت أو اقتصادية – قادرة على إحداث تذبذبات حادة.

في النهاية، ما تقوله الأرقام حتى اليوم هو أن العالم يدخل ٢٠٢٦ على إيقاع ثلاث حقائق: أسواق أسهم عالمية أضافت في عام واحد عشرات التريليونات إلى قيمتها، ذهب وفضة سجلا قفزات هي الأقوى منذ أربعة عقود، وبنوك مركزية وعلى رأسها الاحتياطي الفدرالي تنتقل من سياسة كبح جماح التضخم إلى سياسة موازنة دقيقة بين دعم النمو والحذر من عودة الأسعار للارتفاع. وبين هذه العوامل كلها، تبقى البوصلة في يد المستثمر: هل يركب موجة الأسهم مدفوعاً بحكاية الذكاء الاصطناعي، أم يشدّ الرحال إلى الذهب والفضة بحثاً عن مظلة أمان، أم يحاول توزيع رهاناته على عالم يزداد تعقيداً… لكنه، إلى الآن، لم يفقد بعد شهيته للمخاطرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى