ترامب يعزف لحن الردع: كيف فرضت واشنطن إيقاع السلام النووي بين روسيا وأوكرانيا؟

نيويورك- زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة
عاد المشهد الروسي ليشعل مخاوف العالم بعد إعلان موسكو اختبار صواريخ جديدة، بعضها يعمل بالطاقة النووية، في خطوة بدت أقرب إلى استعراض قوة في لحظة سياسية مضطربة. وأظهرت لقطات متداولة إعلاميا سحب اللهب وهي تشقّ السماء، ورسائل مبطّنة يبعثها الكرملين للعالم بأنه ما زال قادراً على تحريك ميزان الردع. وفي نفس الوقت، تحدثت تقارير غربية عن تسارع كبير في حجم الترسانة الروسية التي تجاوزت الخمسة آلاف رأس، وكأن موسكو تريد أن تذكّر الجميع بأنها ما زالت تمتلك مفاتيح التصعيد حين تشاء
تحركت الولايات المتحدة على الجهة المقابلة ببرودة المدرك لطبيعة اللعبة؛ اذ خرج الرئيس الأميركي ” دونالد ترامب” بتصريح مباشر قال فيه إن بلاده تملك أكبر عدد من الأسلحة النووية، لكنها اختارت منذ سنوات طويلة التوقف عن الاختبارات، مفضّلة الحفاظ على السقف الدولي الذي منع الانفلات لعقود. لكن الجملة التي تلت ذلك كانت الأهم: “إذا كان الآخرون يختبرون، فربما يصبح من المناسب أن نفعل الشي نفسه.” وذلك لم يكن مجرد تعليق عابر، بل رسالة موجهة إلى موسكو وبكين معاً: “واشنطن لن تبقى مكتوفة الأيدي إذا قرر الآخرون اللعب خارج القواعد المتفق عليها”.
وازداد المشهد سخونة حين رأينا اللقطة التي سبقت الاجتماع بين الرئيس الأميركي ” ترامب” والرئيس الصيني الآسيوي القوي ” شي جين بينغ”، إذ جاءت الإشارات إلى أن المخزون النووي الآسيوي قد يصل هذا العام إلى نحو ستمائة سلاح، ما يعكس سباقاً صامتاً يجري تحت الجلد الدولي. ومع ذلك، يتحرك الرئيس الأميركي بصفته “قائد الأوركسترا”؛ في رفع مستوى الضغط من جهة واستخدم القنوات الدبلوماسية من جهة أخرى، ليخلق مزيجاً لا يتقنه سواه بين الردع والتهدئة.
واندفعت الأحداث نحو أوروبا الشرقية حيث عاد الحديث عن اتفاق سلام أولي بين روسيا وأوكرانيا، اتفاق لم يكن قابلاً للحياة قبل أشهر. لكن واشنطن، بضغط متوازن ومتدرج، أعادت الأطراف إلى الطاولة، ونجحت في فرض معادلة جديدة تنص على: وقف روسيا للاختبارات المثيرة للجدل وتخفف من حدة عملياتها، مقابل ضمانات أميركية/أوروبية تتعلق بالأمن الحدودي وتجميد الهجمات على المنشآت الحيوية. هكذا بدا المشهد كأن واشنطن أعادت النظام إلى مساره الطبيعي من جديد، مستخدمة أدوات لا يمكن لأي قوة أخرى أن تجمعها بالطريقة نفسها.
تحاول موسكو الآن تخفيف وقع اختبارات الصواريخ، فأعلنت أن التجارب لم تتضمن رؤوساً نووية، في محاولة لتهدئة المخاوف التي انفجرت فور انتشار مقطع التجربة. إلا أن ذلك لم يغير كثيراً في الصورة النهائية؛ فالعالم رأى في الاختبار جزءاً من سياسة الضغط التي تمارسها روسيا، خصوصاً بعد إعلانها السابق عن تطوير نماذج جديدة من صواريخ كروز العاملة بالطاقة الذرية، وهو ما دفع القوى الغربية إلى رفع مستوى الإنذار.
وبينما تتزايد التحليلات في الإعلام، يعود الرئيس الأميركي ليكرر أن بلاده لم تعد قادرة على تجاهل حركة اللاعبين الآخرين، وأن واشنطن إن أرادت حماية الاستقرار العالمي فعليها أن تعيد تحديد قواعد اللعبة. لكن ورغم حدة الخطاب، إلا أن النتيجة كانت واضحة: حيث تراجعت روسيا خطوة، تتنفس أوروبا، وتجد أوكرانيا نافذة لالتقاط الأنفاس، فيما بدا أن سباق الفوضى النووية قد تم كبحه مؤقتاً بفضل تدخل محسوب.
واستمرت التفاصيل بالتكشف، فالإدارة الأميركية تدرك أن ضبط الإيقاع الدولي يحتاج إلى صرامة منضبطة لا إلى مغامرة، ولذلك جاءت خطواتها الأخيرة موزونة بدقة. فهي من جهة لا تسمح بتمدد غير منضبط في الترسانات النووية، ومن جهة أخرى تدفع نحو تسوية سياسية تُخرج منطقة الصراع من دائرة الاشتعال. وبهذا، يظهر أن واشنطن لا تريد الحرب، لكنها أيضاً لا تقبل أن يفرض الآخرون شروطهم عبر صواريخ تُطلق في الليل ثم تُفسَّر بالصباح على أنها “تجارب تقنية.”
وبين الضجيج الروسي وهدوء الأميركيين، يتضح أن الشخص الذي أعاد ضبط الميزان ليس سوى الرئيس الأميركي “دونالد ترامب” الذي يتعامل مع الملفات الدولية كقائد يضبط الإيقاع لا كطرف يسعى لزيادة الفوضى. فبينما تلمع الصواريخ في سماء الشمال، تتحرك واشنطن بخطوات ثابتة لإعادة العالم خطوة مبتعدة عن الهاوية، مؤكدة مرة بعد مرة أن النظام الدولي، مهما اهتز، لا يزال يعود ليستقيم عندما تقرر هي أن تضبط الإيقاع.




