النانو: يقلب معادلات الردع في العالم

At the Spring Session of NATO PA
نيويورك – زينة بلقاسم -ألأمم المتحدة
في عالمٍ تتسابق فيه الدول على امتلاك وسائل ردع أكثر دقة وأقل كلفة سياسية، يطلّ على الساحة مفهوم يبدو في ظاهره أقرب إلى الخيال العلمي يأخذ من الأسماء اسم “سلاح النانو”، سلاح بحجم شعرة أو أصغر يُقال إنه قد يكون أخطر من النووي، وأنه قادر في يوم ما على تغيير قواعد اللعبة الاستراتيجية بالكامل، وربما الاستغناء عن كثير من أشكال الردع التقليدي. بين المبالغات الإعلامية والتحذيرات العلمية الرصينة، تتشكل صورة معقّدة لتقنية صغيرة جداً في الحجم، لكنها كبيرة جداً في الاحتمالات، إيجابية كانت أو سلبية.
جذور فكرة “النانو” نفسها ليست جديدة؛ حيث تعود إلى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي عندما بدأ علماء الفيزياء والمواد يتحدثون عن التعامل مع المادة على مستوى الذرات والجزيئات، لكن الانطلاقة الحقيقية كانت في التسعينيات وبداية الألفية الجديدة مع تطور المجاهر الذرية وعلوم المواد، وظهور مجال “تقنية النانو” بوصفه تخصصاً قائماً بذاته. فأطلقت قوى كبرى منذ مطلع الألفية، برامج وطنية ضخمة للبحث في هذا المجال، وخصصت لها مليارات الدولارات، بينها مبادرة وطنية في إحدى الدول الرائدة جعلت من تقنية النانو جزءاً مركزياً من استراتيجيتها العلمية والأمنية، ثم لحقت بها عشرات الدول الأخرى خلال الفترة ما بين 2001 و2004، حتى باتت برامج النانو الوطنية موجودة في أكثر من ستين بلداً حول العالم.
و قد بدا تركيز معظم هذه البرامج في البداية، تركيزا مدنياً باعتماد مواد أخف وأقوى للصناعة، إضافة الى تطبيقات طبية لعلاج السرطان بأدوية موجهة، وتحسين البطاريات والطاقة الشمسية، وكذلك أدوات إلكترونية أصغر وأسرع. لكن سرعان ما أدركت المؤسسات العسكرية أن التحكم في المادة على مستوى النانو يفتح أبواباً واسعة أمام تطوير جيل جديد من الأسلحة ووسائل الحماية، من دروع أخف وأقوى، إلى متفجرات أكثر كثافة، إلى حساسات بالغة الدقة، وصولاً إلى ما صار يُسمّى في الأدبيات المتخصصة ب “أسلحة النانو”. وتتحدث تقارير بحثية في القانون الدولي والأمن منذ ما يزيد على عقدين عن “تحديات ضبط التسلح في عصر النانو” وعن احتمال أن تقوّض هذه التقنيات إطار السيطرة التقليدية على الأسلحة، لأنها لا تشبه الأسلحة النووية أو الكيميائية أو البيولوجية المعروفة، بل تتسلل داخلها وتضاعف فاعليتها أو تغيّر طبيعتها.
وإذا سألنا أنفسنا ما المقصود عملياً بـ “سلاح النانو”؟ فلن نجد في الأدبيات العلمية، تعريف واحد متفق عليه، لكن يمكن الحديث عن فئتين رئيسيتين. الأولى تعرفه على أساس انه أسلحة أوأنظمة سلاح تقليدية جرى تعزيزها بمواد أو مكوّنات نانوية، كالقذائف التي تحتوي على متفجرات نانوية أكثر كثافة، أو الدروع التي تستخدم أليافاً ومواد نانوية تجعلها أخف وزناً وأكثر قدرة على امتصاص الصدمات، أو الطائرات المسيّرة المصغرة التي تعتمد على بطاريات نانوية وسطح مغطى بطبقات تقلل من البصمة الرادارية والحرارية. أما الثانية فهي مفاهيم أكثر تقدماً تتعلق بأجهزة أو جسيمات نانوية ذات وظيفة هجومية مباشرة، مثل روبوتات نانوية يمكن نظرياً أن تُحقن في جسم إنسان أو تدخل رئتيه أو مجرى دمه وتنفذ مهمة تدميرية محددة، أو “غبار ذكي” عبارة عن ملايين الجسيمات النانوية المتصلة بأنظمة تحكم يمكن أن تراقب أو تشوش أو تؤذي على نطاق واسع. هذه الفئة الأخيرة لا تزال في الغالب ضمن حدود الفرضيات والسيناريوهات المستقبلية، ولم تتحول إلى أنظمة سلاح جاهزة ومعلنة، لكن مجرد كونها ممكنة من حيث المبدأ هو ما يغذي المخاوف.
وظهور الحديث عن سلاح النانو لم يكن عبثياً، بل جاء نتيجة أسباب واضحة دفعت المؤسسات العسكرية والبحثية إلى الاهتمام بهذا الاتجاه. أول هذه الأسباب أن تقنيات النانو تسمح بزيادة القوة التدميرية أو الفاعلية في مساحة وكتلة أقل بكثير؛ فالمواد النانوية تتميز بقدرة عالية على جعل التفاعلات الكيميائية أسرع وأكثر كفاءة، ما يعني متفجرات أشد قوة في أحجام أصغر. والسبب الثاني أن النانو يفتح الباب أمام أنظمة حساسة جداً يمكنها رصد الإشارات الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية في مستويات منخفضة، ما يغري باستخدامها في الاستخبارات والمراقبة والإنذار المبكر. أما السبب الثالث فيتعلق بسباق التفوّق العسكري نفسه، حيث انه عندما تعلن دولة ما عن استثمارات ضخمة في مواد ودروع وتجهيزات نانوية لرفع حماية جنودها، يشعر منافسوها أن عليهم اللحاق بها حتى لا يفقدوا ميزان القوة في ساحة القتال. وهكذا، تتحول تقنية مدنية في الأصل إلى حلقة جديدة في سباق تسلح لا أحد يريد أن يبقى متأخراً فيه وخاصة بين القوى العظمى.
ومع أن الصورة الشائعة تربط سلاح النانو فقط بالمخاطر، فإن الوجه الآخر للتقنية لا يقل أهمية. ففي المجال العسكري والأمني نفسه، توجد تطبيقات نانوية ذات طابع وقائي وإنساني مثل حساسات نانوية متقدمة للكشف بدقة وسرعة عن الغازات السامة والمواد الإشعاعية، وخوذ وصدريات أخف وزناً تقلل إصابات الجنود، وطلاءات نانوية تقلل من تآكل المعدات وتزيد من عمرها الافتراضي وتقلل كلفة الصيانة. ولا نغفل عن المجال المدني، ففيه تُستخدم تقنية النانو في أدوية موجهة تعالج الأورام بجرعات أقل ضرراً للجسم، وفي أغشية لتنقية المياه من الملوثات، وفي مواد بناء أكثر صلابة وأقل استهلاكاً للطاقة، وفي أجهزة إلكترونية أكثر كفاءة. وتشير بعض مراكز الأبحاث الأمنية إلى أن النانو يمكن أن يكون أيضاً “سلاحاً ضد أسلحة الدمار الشامل” عبر تطوير أجهزة نانوية لكشف العوامل الكيميائية والبيولوجية والإشعاعية بدقة أكبر، بل والتقليل من أثر التلوث الإشعاعي أو الكيميائي بطرق مبتكرة.
لكن ما يجعل “سلاح النانو” موضوعاً حسّاساً هو طبيعته المزدوجة؛ فالتقنية ذاتها التي يمكن أن تنقذ الأرواح في المستشفيات أو تقلل من التلوث البيئي يمكن عند توجيهها أن تصبح أداة قتل صامتة أو تدمير واسع. اذ أشارت دراسات في الأخلاقيات العلمية والأمن إلى أن تقنية النانو تعتبر نموذجا واضحا للتقنيات ذات الاستخدام المزدوج؛ فهي تُطوَّر لأغراض مدنية وعسكرية في آن واحد، والحد الفاصل بين الاستخدامين غالباً ما يكون غامضاً. تُستخدم اليوم جسيمات نانوية لنقل دواء إلى خلية سرطانية يمكن للمخيّلة العسكرية أن تتصورها غداً ناقلاً لمادة سامة إلى أعضاء حيوية، وتوضع حساسات نانوية في بيئات صناعية لمراقبة التلوث يمكن أن تتحول إلى شبكة تجسس دقيقة تتابع تحركات الأفراد والأشياء على نطاق غير مسبوق.
ولن نغفل عن الناحية العملية، إذ تتجلى خطورة أسلحة النانو المحتملة في عدة سيناريوهات تتداولها مراكز البحث والاستشراف. ومن بين هذه السيناريوهات إمكانية تطوير مواد نانوية تجعل المتفجرات التقليدية أكثر فتكاً بأضعاف، بما يسمح بصنع ذخائر صغيرة نسبياً لكن ذات قدرة تدميرية عالية، أو تطوير “غبار نانوي” يحمل مواد سامة يصعب كشفها بالأجهزة الحالية ويُطلق في مناطق محددة. وهناك سيناريوهات أكثر تطرفاً تتحدث عن روبوتات نانوية ذات قدرات محدودة على الحركة واختيار الأهداف، أو عن جسيمات مصممة لمهاجمة نوع معين من الخلايا البشرية، ما يفتح الباب أمام شكل جديد من “الاستهداف الشخصي” في الاغتيالات أو العمليات السرية. لا تزال هذه التصورات إلى حد كبير في إطار النقاش النظري، لكنها تُستخدم لتسليط الضوء على الفراغ القانوني والأخلاقي القائم؛ إذ لا توجد حتى الآن اتفاقيات دولية خاصة بعنوان “أسلحة النانو”، بل يجري التعامل معها ضمن أطر عامة للأسلحة الكيميائية والبيولوجية والسمية، وهي أطر قد لا تستوعب كل تعقيدات التقنيات الجديدة.
على مستوى القوى الكبرى، تُظهر مراجعة التقارير العلمية والأمنية أن الاستثمار في تقنيات النانو ذات الصلة بالدفاع بات جزءاً ثابتاً من استراتيجيات الأمن القومي، حيث خصصت دول رائدة في البحث العلمي منذ مطلع القرن الحالي، مليارات لمشاريع نانو مرتبطة بالقوات البرية والجوية والبحرية، من الدروع الذكية إلى الطلاءات المخفية إلى أجهزة الاستشعار والتواصل المصغرة، حتى وُصف ذلك في بعض الدراسات بأنه “سباق نانو عالمي” تتنافس فيه قوى كبرى وقوى صاعدة على احتلال موقع متقدم. وفي المقابل، هناك تقارير صادرة عن مؤسسات أممية متخصصة في نزع السلاح تنبّه إلى أن سرعة تطور هذه التقنيات تتجاوز القدرة الحالية لأنظمة القانون الدولي والحوكمة على مواكبتها، وتدعو إلى مراقبة مستمرة لما يسمّى “التقنيات المُمكِّنة” -ومنها النانو- لما لها من أثر محتمل على الأمن والسلم الدوليين.
يترافق كل ذلك مع سؤال جوهري وهو “هل يمكن أن يكون سلاح النانو فعلاً أخطر من السلاح النووي؟” فإذا كان المقصود بالمقارنة القدرة على التدمير الشامل الفوري، فإن الأسلحة النووية ما زالت تتفوق بوضوح؛ حيث إن قنبلة نووية واحدة قادرة على محو مدينة، في حين أن معظم ما يُناقَش بشأن أسلحة النانو يتعلق بتأثيرات موزعة زمنياً ومكانياً وبجرعات أصغر. لكن إذا نظرنا إلى معايير أخرى مثل صعوبة الكشف، وإمكانية الاستخدام المتدرج، وسهولة الإخفاء والنفي، واحتمال الانتشار إلى فاعلين من غير الدول، فإن بعض الباحثين يجادلون بأن أسلحة النانو قد تكون أخطر من حيث قدرتها على تقويض الاستقرار دون أن تترك بصمة واضحة، أو على الأقل تجعل من الصعب تحديد المسؤولية. أسلحة صغيرة، غير مرئية تقريباً، يمكن تهريبها أو نشرها بطرق متعددة، قد تستدرج ردود فعل عنيفة أو حروباً كبيرة في غياب أدلة قاطعة، ما يرفع من خطر سوء الفهم والتصعيد غير المقصود بين القوى الكبرى.
هنا تبرز إحدى النقاط الأكثر حساسية المتمثلة في تأثير أسلحة النانو المحتملة على مفهوم الردع التقليدي. إذ يقوم الردع النووي على مبدأ بسيط هو القدرة على إلحاق دمار هائل وواضح بالخصم إذا بادر بالهجوم، في ظل وضوح وسائل الإطلاق ومساراتها. أما في سيناريوهات النانو، فيمكن تخيّل أدوات هجوم نانوية غير منسوبة بسهولة، أو عمليات تشويش وتعطيل واسعة للبنى التحتية تعتمد على مواد وأجهزة دقيقة لا تُكتشف إلا بعد فوات الأوان. هذا النوع من التهديدات، إن تحقق، قد يغيّر منطق الردع نفسه، لأنه يقلل من قيمة التهديد العلني بالانتقام ويعزز بدلاً منه لعبة “الضربات الخفية” و”الردود غير المعلنة”، بما يحوّل ساحة العلاقات الدولية إلى مساحة أكبر من الغموض والتوجس.
في المقابل، هناك من يرى أن الحديث عن استبدال الردع النووي بأسلحة النانو يحمل قدراً كبيراً من المبالغة، وأن الحكمة تكمن في إدراك أن هذه التقنيات ستضاف إلى منظومة الردع وليس بالضرورة أن تحل محلها. فالقوى الكبرى التي استثمرت لعقود في ترسانات نووية ضخمة لن تتخلى عنها بسهولة، لكنها في الوقت نفسه تعمل على إدماج تقنيات النانو في منظوماتها الدفاعية والهجومية من ناحية تحسين دقة الصواريخ، وحماية الغواصات، وتطوير وسائل رصد للغواصات والأسلحة الاستراتيجية، الى جانب تعزيز قدرات الاستشعار المبكر. وبذلك، يصبح أثر النانو على الردع غير مباشر؛ إذ يزيد من تعقيد المعادلة ويضيف طبقات جديدة من القدرات، دون أن يلغي الأسس القديمة.
و بعيداً عن السيناريوهات القصوى، هناك أيضاً احتمالات ثانوية لا تقل أهمية عن الصورة الكبيرة. منها مثلاً أن تتسرب تقنيات نانوية بسيطة نسبياً إلى جماعات مسلحة صغيرة أو شبكات إجرامية تستخدمها في تصنيع متفجرات أشد فتكاً أو في تهريب مواد سامة يصعب رصدها؛ ومنها أن يؤدي الاستخدام المكثف للمواد النانوية في الصناعة والجيش إلى مشكلات بيئية وصحية جديدة لم تُدرَس بعد بما يكفي، لأن سلوك الجسيمات النانوية في الهواء والماء والتربة وفي أجسام الكائنات الحية لا يزال موضوع بحث. وتحذر تقارير علمية من أن بعض هذه الجسيمات قد يكون لها تأثيرات سميّة غير متوقعة، ما يجعل أي تسليح يقوم عليها مضاعف الخطورة: مثل التأثير المباشر كسلاح، والتأثير الطويل الأمد على البيئة والصحة.
لكن يمكن القول إن سلاح النانو هو عنوان مكثّف لصراع أكبر بين وعدين: وعد بتقنية قادرة على تحسين حياة البشر من علاج الأمراض المستعصية إلى حماية البيئة وتعزيز السلام من خلال أدوات أكثر ذكاء في الرصد والإنذار، ووعد آخر مظلم يتمثل في التهديد بتقنية قد تتحول إلى وسيلة قتل صامتة وتدمير غير مرئي وتمييز واستهداف دقيق للفئات والأفراد. ولن يكون ما سيرجّح كفة أحد الوعدين على الآخر، حجم الجسيمات النانوية ولا براعة المختبرات وحدها، بل الخيارات السياسية والأخلاقية والقانونية التي ستتخذها الدول والمجتمع العلمي والهيئات الدولية. فإذا تُركت تقنيات النانو لسوق التنافس العسكري الخالص، فليس مستبعداً أن ينشأ نوع جديد من سباق التسلح الذي قد يكون أقل صخباً من سباق الصواريخ النووية، لكنه أكثر تغلغلاً في تفاصيل الحياة اليومية وأصعب كثيراً في الضبط والمراقبة. أما إذا سبقه ورافقه نقاش جدي حول الضوابط والشفافية واستخدام القوة، فقد تتحول هذه التقنية من سلاح بحجم شعرة أو أقل يُخشى منه، إلى أداة دقيقة بيد الإنسانية لتصغير حجم العنف نفسه، لا تكبيره.




