“الانتقالي” يتمدد والشرعية تتراجع

 

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة

تشهد الخريطة السياسية والعسكرية في اليمن في هذه المرحلة منعطفاً حادّاً، مع تمدد واسع للمجلس الانتقالي الجنوبي وبسط نفوذه على أجزاء كبيرة من الجنوب، في وقت تبدو فيه مؤسسات الشرعية اليمنية شبه غائبة عن الميدان، أو محصورة في بيانات وتصريحات لا تجد ما يسندها على الأرض. خلال أسابيع قليلة فقط، بات المجلس الانتقالي يقدّم نفسه كالعنوان الأول في مساحات واسعة من عدن ولحج وأبين وأجزاء من شبوة، مع نفوذ متزايد في حضرموت والمهرة وسقطرى، في مشهد يعيد إلى الأذهان خرائط ما قبل الوحدة، ويطرح أسئلة عميقة عن مستقبل الدولة اليمنية وشكلها وحدودها وطبيعة سلطتها في السنوات المقبلة.
ميدانياً، تتحدث مصادر محلية عن واقع جديد بدأت تتشكل ملامحه تدريجياً ثم تسارع في الآونة الأخيرة؛ حيث نقاط أمنية وعسكرية تتبع قوات موالية للمجلس الانتقالي، وإدارات محلية تعمل بتنسيق مباشر معه، وأعلام وشعارات جنوبية حاضرة في المؤسسات والفعاليات العامة، وبالمقابل حضور باهت أو رمزي لل “الحكومة المعترف بها دولياً”. وفي بعض المدن والمناطق، بات المواطن البسيط يتعامل عملياً مع “سلطة الأمر الواقع” بوصفها الجهة القادرة على الحسم وتوفير الحد الأدنى من الأمن والخدمات، بغض النظر عن الجدل السياسي الدائر حول شرعيتها القانونية والدستورية.
وتبدو الشرعية اليمنية، ممثلة بالمجلس القيادي الرئاسي والحكومة، إزاء هذا المشهد وكأنها تتحرك في عالم موازٍ: اجتماعات خارج البلاد، وبيانات تندد وتستنكر، ونداءات للتمسك بوحدة الصف وتنفيذ الاتفاقات، في حين تستمر على الأرض عملية إعادة توزيع النفوذ لمصلـحة قوى محلية تمتلك السلاح والقدرة على الحشد. وكانت كثير من التقارير السياسية قد حذّرت مبكراً من أن المركز السياسي للشرعية هشّ، وأن مكوناته ليست متجانسة بما يكفي لصناعة قرار موحد أو إدارة صراع معقد، وأن استمرار هذا الضعف يفتح الباب عملياً أمام بروز سلطات محلية متوازية في الشمال والجنوب، وهو ما نراه اليوم بصورة أكثر وضوحاً.
وفي خطاب المجلس الانتقالي، ما يحدث اليوم ليس انقلاباً على الشرعية، بل هو “تصحيح لمسارها”، كما يقدّم الأمر أنصاره. ومن وجهة النظر هذه، فشل الحكومات المتعاقبة في إدارة المناطق المحررة، وعجزها عن تقديم الخدمات الأساسية، وغياب رؤية واضحة لإعادة بناء مؤسسات الدولة، كلها عناصر أضعفت ثقة الشارع في الشرعية وفتحت المجال أمام قوى أخرى لملء الفراغ. يقدّم المجلس الانتقالي نفسه بوصفه امتداداً سياسياً لقضية الجنوب التي تعود جذورها إلى ما بعد حرب 1994، ويقول إن له قاعدة شعبية واسعة في محافظات الجنوب تخوّل له حيزا كافيا للتحدث باسمها والمطالبة بحقوقها السياسية، وصولاً إلى “استعادة الدولة الجنوبية” عبر مسار تفاوضي أو استفتاء شعبي عندما تنضج الظروف.
يشير أنصار هذا التيار إلى أن الانتقالي نجح، في نظرهم، في فرض قدر من الاستقرار الأمني في بعض المدن مثل عدن، وفي تنظيم قوات عسكرية وأمنية أكثر انضباطاً مقارنة بمراحل سابقة شهدت تعدد التشكيلات وتداخلها، كما يشيرون إلى تحسن نسبي في بعض الخدمات أو المشاريع التي نُفِّذت بدعم من دول عربية شقيقة ضمن التحالف الداعم للشرعية، ويرون أن هذا الواقع على الأرض يمثل “إدارة جنوبية بوجه جنوبي”، في مقابل حكومات تقيم في الخارج (في تلميح الى الحكومة الشرعية التي تتخذ من المملكة العربية السعودية مقرا لها) وتعجز في نظرهم عن التعامل مع تحديات الداخل.
و في الجهة المقابلة، يرى منتقدو المجلس الانتقالي، داخل معسكر الشرعية وخارجه، أن هذا المسار يمثّل عملياً تفكيكاً بطيئاً لما تبقّى من الدولة اليمنية، وأن تمدد سلطة الأمر الواقع في الجنوب، إلى جانب ترسخ سلطة مماثلة في الشمال، يدفع البلاد باتجاه ترسيم غير معلن لحدود نفوذ جديدة تتمثل في: شمال يخضع لسلطة قائمة بذاتها، وجنوب يخضع لسلطة أخرى، ومركز شرعية يتحول تدريجياً إلى عنوان سياسي بلا أدوات تنفيذية. و بالتالي ومن هذا المنظور، فالخطر ليس في أن يطالب الجنوب بحقوقه أو بهوية خاصة، بل في أن يجري ذلك في ظل غياب مشروع وطني جامع يحافظ على ما تبقّى من فكرة الدولة الواحدة، أو على الأقل دولة متماسكة يمكن أن تُصاغ في إطار سياسي متوافق عليه.
تتعزز هذه المخاوف كلما ظهرت مؤشرات على تنافس داخلي جنوبي/جنوبي في بعض المناطق، بين قوى قبلية واقتصادية وسياسية مختلفة الرؤى والمصالح، وخصوصاً في محافظات ذات حساسية خاصة مثل حضرموت والمهرة وشبوة. فنجاح أي سلطة محلية لا يتوقف فقط على قدرتها على السيطرة العسكرية، بل على امتلاكها مشروعاً سياسياً يضمن التوازن بين المكونات الاجتماعية ومصالح القوى الفاعلة. وإذا لم يتحقق هذا التوازن، فإن سيناريو تعدد المراكز داخل الجنوب نفسه ليس مستبعداً، بما يحول دون الوصول إلى استقرار طويل الأمد، حتى لو غابت الشرعية التقليدية عن المشهد.
على المستوى الاجتماعي، يقف المواطن اليمني العادي في الجنوب أمام معادلة شديدة التعقيد؛ فهو من جهة يريد سلطة قادرة على فرض الأمن ومكافحة الفساد وتوفير الخدمات وفرص العمل، ومن جهة أخرى يخشى أن تؤدي حالة التشظي الحالية إلى إغلاق أبواب الحل السياسي الشامل، وإضاعة فرصة إنهاء الحرب عبر تسوية تضمن الحد الأدنى من وحدة الأرض أو وحدة المؤسسات. و تعبر كثير من الأصوات في الشارع الجنوبي عن تأييد لمطالب العدالة والشراكة والهوية، لكنها في الوقت ذاته تتحفظ على أي مسار قد يفتح الباب لحروب جديدة داخل البيت الجنوبي أو يعمّق القطيعة مع بقية اليمنيين.
يُنظر في الشمال إلى ما يجري في الجنوب من زوايا متباينة؛ فهناك من يرى أن تراجع حضور الشرعية في الجنوب يعزز موقف القوى المسيطرة في صنعاء بوصفها الطرف الأكثر تماسكاً، وهو ما يمنحها أوراق قوة إضافية في أي مفاوضات قادمة، وهناك من يرى أن استمرار تشظي السلطة في الجنوب قد يطيل أمد الحرب، لأن غياب شريك وطني موحد في المعسكر المناهض للحوثيين يجعل الوصول إلى اتفاق شامل أكثر تعقيداً. وبين هذه الرؤى المتعارضة، يبقى المؤكد أن كل خطوة تضعف الكيان المركزي للدولة -بصرف النظر عن اسم الجهة المسيطرة- تجعل كلفة إعادة بناء دولة جامعة لكل اليمنيين أعلى وأصعب.
و على صعيد دول التحالف العربي التي دعمت اليمن في مواجهة الانقلاب وفي حماية الشرعية ومؤسساتها، فتجد نفسها اليوم أمام واقع جديد يفرض إعادة تقييم للأولويات والأدوات. حيث أن التجربة الطويلة من الحرب أظهرت أن الاعتماد على مركز سياسي هشّ لا يكفي وحده لصناعة الاستقرار، وأن تمكين القوى المحلية من إدارة شؤونها يحتاج إلى إطار وطني واضح حتى لا يتحول إلى حالة انفصال فعلي أو تعدد دائم للسلطات. ومن هنا تبرز الحاجة إلى مقاربة أكثر توازناً تجمع بين دعم القوى الفاعلة على الأرض وبين الحفاظ على أفق حل شامل يضمن لليمنيين دولة قابلة للحياة، جنوباً وشمالاً.
ومن زاوية القانون الدولي، لا تزال الشرعية اليمنية -رغم كل ضعفها- الإطار المعترف به في الأمم المتحدة وفي المحافل الإقليمية، وهذا ما يجعل أي تغيّر في ميزان القوى الميداني، سواء لصالح المجلس الانتقالي أو غيره، بحاجة في النهاية إلى ترجمة سياسية عبر مفاوضات واتفاقات تضمن تمثيل مختلف الأطراف وتوزيع السلطة والثروة بصورة عادلة. فسلطات الأمر الواقع، مهما كانت قوتها، تحتاج في نهاية المطاف إلى غطاء قانوني ودستوري لتثبيت مكتسباتها وتجنب عزلة دولية قد تعطل مشاريع الإعمار والتنمية والاستثمار.
وبالتالي فإن ما يجري اليوم في جنوب اليمن يشبه عملية “إعادة رسم صامتة” للخرائط، حيث إنها لا تجري على طاولات الدبلوماسية بقدر ما ترسمها الوقائع العسكرية والإدارية والمجتمعية. إذ يملأ المجلس الانتقالي الجنوبي فراغاً تركته شرعية متعبة ومفككة، ويقدّم نفسه ممثلاً لقضية الجنوب وطموحاته، فيما تتمسك الشرعية -ولو نظرياً- بفكرة اليمن الواحد وسلطة مركزية جامعة. وبين هذين الخيارين، يظل الخاسر الأكبر حتى الآن هو مفهوم الدولة نفسه؛ دولة تكفل الحقوق وتوزع السلطة وتحمي السيادة وتوفر الخدمات لكل مواطنيها. ولعل السؤال الأهم لليمنيين اليوم ليس فقط: من يحكم الجنوب؟ بل: أي يمن يريدون في النهاية؟ يمن الأعلام المتعددة والسلطات المتعددة والمشاريع المتصادمة، أم يمن يجد طريقة ما -مهما كانت معقدة- لصياغة عقد جديد يضمن للشمال والجنوب معاً مكانهما في إطار دولة واحدة أو صيغة متوافق عليها، تنهي زمن الحرب وتفتح الباب لزمن السياسة والتنمية؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى