تحوّل الجالية اليمنية في الولايات المتحدة.. من الهامش إلى التأثير المدني

 

بقلم / البروفيسور/ موسى علاية

 

على مدى العقود الماضية، عُرفت الجالية اليمنية في الولايات المتحدة كإحدى الجاليات العاملة بصمت، المنهمكة في بناء حياتها بعيدًا عن المشهد السياسي، مكتفية بالحضور الاقتصادي والاجتماعي المحدود في الأحياء والمدن التي سكنت فيها. لكن السنوات الأخيرة أظهرت منحنى جديدًا يختلف جذريًا عمّا كان عليه الحال سابقًا؛ إذ بدأت الجالية اليمنية تتحول من جالية صامتة إلى كتلة مدنية وسياسية فاعلة، قادرة على إنتاج قيادات محلية، التأثير في نتائج الانتخابات، واحتلال مواقع حساسة في إدارات المدن الكبرى ومراكز صنع القرار.

هذا التحول لا يمكن اعتباره حدثًا عابرًا أو صدفة تاريخية، بل هو نتاج مسار متراكم من التعليم، الاندماج، المشاركة المجتمعية، وصعود جيل جديد يحمل رؤية واسعة للانتماء والمواطنة. فاليوم، تظهر أسماء يمنية ضمن فريق عمدة مدينة نيويورك، إحدى أهم مدن العالم سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، حيث برزت أكثر من أربع شخصيات يمنية في دوائر صنع القرار داخل مكتب العمدة وفي اللجان المحلية المؤثرة. هذا وحده يعكس انتقالًا نوعيًا من مستوى النشاط الأهلي والاستهلاكي إلى مستوى صناعة القرار والمشاركة في تشكيل مستقبل المدينة.

ولا يقتصر الحضور اليمني على نيويورك وحدها، بل يمتد إلى مدن أخرى في الولايات المتحدة، حيث بدأ يمنيون يترشحون ويفوزون بمناصب في المجالس البلدية، ويشاركون في إدارة ملفات خدمية وسياسية تخص المواطنين. ومن بين هذه النماذج من وصل إلى مستويات عليا في واشنطن العاصمة، مقر أكبر مركز قرار في العالم، وهو مؤشر بالغ الأهمية على أنّ هذا الحضور لم يعد مكانيًا محدودًا ولا ظرفيًا هشًا، بل أصبح جزءًا من مشهد التحوّل العابر للأجيال.

لماذا يشكل هذا التحول منعطفًا مهمًا؟ الجيل الجديد من أبناء الجالية اليمنية لا يرى نفسه مهاجرًا فقط، بل مواطنًا مشاركًا في صناعة القرار وصوتًا يجب أن يُسمع. الحضور في مفاصل الحكم والمدن الكبرى يعني القدرة على تغيير الصورة النمطية وبناء إدراك جديد يقوم على الكفاءة والاندماج الإيجابي. كل تجربة يمنية في الحكم المحلي تضيف معرفة جديدة وتخلق نموذجًا يحتذيه آخرون، مما يفتح الباب أمام مزيد من القيادات الشابة. ما كان يُعتبر حلمًا فرديًا أصبح اليوم مسارًا عامًا، يتكرر في أكثر من مدينة وأكثر من مكتب سياسي.

في الماضي، كان معظم الوجود اليمني مرتبطًا بالاقتصاد الصغير والمهن التجارية والمطاعم. اليوم، يتقدّم التعليم الجامعي ليصبح بوابة الاندماج السياسي، ويتحوّل النشاط الحقوقي من مجرد مطالب خدمية إلى تمثيل رسمي داخل المؤسسات. هذا التطور يعكس انتقال الجالية من جيل الآباء الذين بنوا البقاء، إلى جيل الأبناء الذين يبنون التأثير.

إذا استمر هذا المسار بالشكل ذاته، فمن المتوقع أن نشهد خلال السنوات المقبلة مزيدًا من اليمنيين في المجالس التشريعية الولائية وربما في الكونغرس الأميركي. فالتجربة تقول إنّ دخول السياسة يبدأ من البلديات، ثم يتصاعد تدريجيًا نحو المستويات الأعلى، ومع كل مقعد جديد تُزرع شجرة تمثيل سياسي تعزز مكانة الجالية وترفع صوتها وصوت اليمنيين حول العالم.

هذا الحضور لا يُعد نجاحًا فرديًا، بل ثمرة جهد جماعي ونتيجة طبيعية لاندماج طويل في المجتمع الأميركي. وما يحدث اليوم ليس مجرد وصول أشخاص إلى مواقع رسمية، بل هو ولادة دور جديد للجالية اليمنية في صياغة القرار العام داخل واحدة من أقوى الدول في العالم. إنها قصة تحول، وصعود هادئ، ونمو جيل يرى المستقبل جزءًا من مسؤوليته لا بعيدًا عنه.

من صفحة الكاتب على فيسبوك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى