الحرب الروسية الاوكرانية-واقع جديد تشكل بإرادة امريكية

أ د / دحان النجار

قبل الدخول في تفاصيل المحادثات الأوروبية الأمريكية والروسية حول وقف الحرب الروسية الاوكرانية حسب خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لابد من التذكير والتوقف عند التغيير والوضع الجديد في العقيدة العسكرية والعلاقات الدولية التي تولدت نتيجة لها.

الحرب الروسية الاوكرانية غيرت من قواعد الحروب المتعارف عليها عالميا عسكريا وسياسيا واقتصاديا ولذلك المتابع لها بالطريقة التقليدية للحروب لن يستطيع فك شفراتها اعتمادا على نمط التحالفات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تشكلت مع نهاية الحرب العالمية الثانية وسيادة قطبين رئيسيين في العالم القطب الأمريكي الشمال اطلنطي والسوفيتي الشرق أوروبي.
عسكريا ، لعبت الأسلحة الجديدة البسيطة دورا بارزا في تحديد نتائجها وفي كسر النمط التقليدي للجيوش وتسليحها، فعندما غزاء الجيش الروسي أوكرانيا في ٢٣ فبراير ٢٠٢٢م اعتمد على القوة العسكرية التقليدية الضاربة لوحداته واحتمل تحقيق نصرا مؤزرا في مدة أسبوعين او شهرين على الأكثر ، حيث دفع بألاف الدبابات والمدرعات ومئات الالاف من الجنود المشاة والمظليين وكثافة نيران غير مسبوقة تشل العدو وتدفعه الى الاستسلام في اقصر فترة زمنية ممكنة إلا ان الهدف لم يتحقق حيث استخدم الاوكران حرب العصابات والوحدات المستقلة مستخدمين السلاح الاستشعاري المضاد للدروع مثل صواريخ جافلين وكذلك المسيرات وبالأخص بيراقدار التركية وهي سلاح جديد فعال ورخيص التكلفة اثبت كفائه غير مسبوقة جعل الجيوش العالمية تعيد النظر في تسليحها التقليدي والاعتماد على السلاح المسير والذكي.
في الجانب السياسي ، كان الهدف الأوروبي والأمريكي في الاول ضم اوكرانيا إلى الناتو ومحاصرت روسيا وإضعافها استراتيجيا إلا ان تصرف كهذا قاد إلى تعزيز تحالف روسيا والصين واضعاف حلف الناتو نفسه حيث تغيرت السياسة الأمريكية في ظل ادارة الرئيس الأمريكي الجمهوري دونالد ترامب من تشديد الخناق على روسيا عبر الحرب في أوكرانيا كما عمل سلفه الديمقراطي جون بايدن إلى محاباتها وتوجيه الضغط على أوكرانيا من خلال إقناعها بالتنازل عن الأراضي التي ضمتها روسيا، ودفع تعويضات لبلاده عما أنفقته في دعمها في حربها مع روسيا بل وتوقيع اتفاقيات تشمل الغازات النادرة وغيرها كتعويضات والقبول بوقف إطلاق النار ، وقاد خروج الولايات المتحدة من التحالف او بتردّدها وقطع المساعدات العسكرية ما عدى المدفوع ثمنهابواسطة الحلفاء الأوروبيين إلى عجز أوروبا عن الاستمرارية في دعم أوكرانيا وتحقيقها نصرا على روسيا كما خُطط لذلك سلفا، وادى خروجها أيضا الى اضعاف وحدة حلف الناتو الأمر الذي قاد الى تغيير قواعد اللعبة العالمية المألوفة، وبدل من توجيه ثقل الولايات المتحدة الأمريكية العسكري والسياسي لمواجهة روسيا عملت على احتوائها لانها لاتمثل خطرا استراتيجيا سياسيا واقتصاديا وعسكريا كما هي الصين التي تعتبر منافسا فعليا مخيفا تجاوز الخطوط الحمراء وتشكل عقبة رئيسية امام القيادة العالمية والنفوذ الأمريكي في كل المجالات، ونتيجة لذلك اصبح حلف الناتو اضعف وربما نراه يترنح قريبا.
الحروب الاقليمية والعالمية القادمة سيكون عمادها الذكاء الاصطناعي والبداية التطبيقية كانت من أوكرانيا وسوف يشهد العالم حروبا اكثر اعتمادا على الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتفوقة وبكلفة اقل، ويقل الاعتماد على الأسلحة التقليدية الهجومية مرتفعة الكلفة في إنتاجها وفي نقلها وتخزينها واستخدامها.
الحرب الروسية الاوكرانية أسفرت عن وضع أوروبي وعالمي جديد وحان وقت وقفها ، روسيا منتصرة وجريحة وأوروبا جريحة ومنهكة واوكرانيا الخاسر الأكبر والأمر يتطلب إنقاذ ما تبقى منها عن طريق وقف القتال مقابل تنازلات مؤلمة تتمثل في مبداء “الارض مقابل الضمانات الامنية”.
خطة الرئيس الاميركي دونالد ترامب لوقف الحرب والتي خضعت للتعديلات المتعددة من قبل أوكرانيا والأوروبيين والروس ايضا اصبحت قاب قوسين او ادنى من الخروج الى العلن بشكل نهائي على شكل اتفاق رسمي يعلن وقف الحرب.
اجتماع برلين الثلاثي لوفود أوكرانيا وأوروبيا وأمريكا يوم امس الاحد طالب فيه الأوروبيون بضمانات امنية قوية لأوكرانيا في اطار اتفاق لإنهاء الحرب وتشكيل قوة سلام أوروبية بإشراف أمريكي، وفي بيانهم الختامي طالب الأوروبيون روسيا بالتعويض عن الأضرار التي ألحقتها بأوكرانيا وكانوا في الماضي يطالبون بتجميد ومصادرة الأصول الروسية في بنوكهم لهذا الغرض إلا انهم في الاخير لم يحققوا توافق ولم يدرج في اطار البيان اي مطلب بهذا الشأن ، لكنهم مارسوا الضغط على روسيا و قرروا فرض عقوبات اقتصادية جديدة على بعض الكيانات فيها مؤكدين ان فرض العقوبات سوف يستمر حتى بعد توقيع اتفاق وقف الحرب مع انني اشك بتحقيق ذلك لان الجبهة الداخلية الاوروبية تتعرض للضعف والاقتصاديات الأوروبية في حالة ركود وتراجع.
الروس من جانبهم على طريق انجاح اتفاق وقف الحرب يقبلون بعضوية أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي ويقول نائب وزير خارجيتهم بانهم على وشك التوصل إلى اتفاق لإنهاء الحرب في أوكرانيا ، ويقول المراقبون بان المحادثات في برلين كانت ايجابية واسفرت عن اتفاق على قضايا عدة في خطة السلام الأمريكية ولم يتبقى إلا ١٠٪؜ متعلقة بالأراضي والضمانات الامنية، حيث اكدوا في بيانهم بأن الحدود الدولية لا يمكن تغييرها بالقوة واي قرار يتعلق بالارض متروك لأوكرانيا رغم قبولهم في الفكرة من حيث المبدأ ، وبحسب المؤشرات من مواقف الادارة الأمريكية وضغطها المتزايد عليهم في الاخير سوف يقبلون .
زيلنسكي نفسه يرى بان مقترح الانسحاب من الدونباس وعدم دخول الجيش الروسي إلى المناطق التي يتم الانسحاب منها حسب طلب واشنطن مقبول ولكنه غير عادل ومع ذلك يقول بان الحصول على ضمانات امنية قوية التي اصبح قريب منها مهم جدا، اي انه يعبر ضمنيا عن القبول بمبداء “الارض مقابل الضمانات الامنية”.
التصريحات والاشتراطات المتباينة للرئيس زيلنسكي لا تعبر عن رفض للخطة الأمريكية لكنها تهيء الرأي العام الاوكراني عبر جرع متتالية من التصريحات لقبول الاتفاق النهائي المعدل المفروض امريكياً ، وكان الوفد الاوكراني قد ابلغ نظيره الأمريكي بان مسالة الارض بحاجة إلى مزيد من الوقت وان هناك تباين داخلي بشأنها.
اما روسيا التي تقف تراقب التفاعلات حول الخطة بين الأوروبيين والأوكرانيين من جهة والولايات المتحدة الأمريكية من جهة اخرى ، تقول بانها تركز في محادثاتها على واشنطن وليس على اوروبا وبانها لن تقبل بوجود قوات للناتو في أوكرانيا تحت مسمى قوات السلام التي ذكرها البيان الاوروبي حتى في اطار الضمانات الامنية التي تقدمها الخطة وانه في حالة وجودها ستكون هدفا عسكريا لقواتها.
وزير الخارجية الروسي لافروف يقول ان الولايات المتحدة باتت تتفهم موقف بلاده بعمق وينتظر ردها بشان المفاوضات مع الجانب الاوكراني والأوروبي ، وكما يقول نائبه ريابكوف بان الحل الدبلوماسي اصبح اقرب من اي وقت مضى وانهم اي الروس جاهزون له.
وكان لافروف قد صرح سابقا بان روسيا لا تنوي مهاجمة أوروبا ومستعدة لتقديم ضمانات في هذا السياق وذلك من اجل تطمين الأوروبيين وسلب حجتهم في نوايا روسيا مهاجمتهم مستقبلا ، وأنه من المهم ازالة الاسباب الرئيسية للصراع ويقصد بها عدم ضم أوكرانيا إلى الناتو والتزامها الحياد والحد من جيشها وتسليحها والاعتراف بالأراضي التي ضمتها بلاده.
واما الجانب الأمريكي الذي يلعب دور الوسيط فقد صرح ممثل الادارة “ويتكوف ” بأن هناك تقدم كبير بشان خطة السلام والنقاط العشرين ، و الرئيس دونالد ترامب من ناحيته صرح بأن فريق التفاوض الأمريكي يرى بان مسالة الارض مفصلية في انجاز الاتفاق وانه يعمل من اجل ذلك ولديه دعم كبير من القادة الأوروبيين من اجل انهاء الحرب وان الاتفاق بشأنها اصبح اقرب من اي وقت مضى.
ومن الواضح بأن اتفاقا ينهي الحرب الروسية الاوكرانية اصبح في حكم المتاح وان مبداء “الارض مقابل الضمانات الامنية” اصبح امراً واقعا لا رجعة عنه وفقط يخضع لبعض التعديلات حتى لو لم تعترف أوكرانيا رسميا بضم روسيا للدونباس. ويظل السؤال الاخير بدون اجابة واضحة إلى اليوم هو ما هي الضمانات الامنية التي سوف تقدمها واشنطن لكييف ،وهل ستكون بالاتفاق مع موسكو ؟
د/دحان النجار ديربورن ميشجان ١٥ ديسمبر ٢٠٢٥م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى