معاداة السامية ترهب سيدني الاسترالية

نيويورك – زينة بلقاسم – ألأمم المتحدة
فيما كان يُفترض أن يكون اول يوم للاحتفال بالنور والفرح على شاطئ بونداي في سيدني، تحوّلت أول ليلة من «حانوكا» إلى واحدة من أكثر اللحظات رعباً في تاريخ الجالية اليهودية في أستراليا. أكثر من ألف شخص، بينهم عائلات وأطفال ورجال دين، اجتمعوا في فعالية «حانوكا على الشاطئ»، قبل أن يمزّق دويّ الرصاص والمشاهد المفزعة أي إحساس بالأمان. فخلال دقائق، سقط ١٢ قتيلاً على الأقل ونحو ٣٠ جريحاً، بينهم اثنان من الشرطة، في هجوم صنّفته السلطات الأسترالية سريعاً بوصفه «عملاً إرهابياً يستهدف المجتمع اليهودي» وهو الأشد دموية في البلاد منذ عقود.
تُظهِر المعلومات الأولية التي نشرتها الشرطة ووسائل الإعلام أن مهاجمَيْن أطلقا النار من نقطة مرتفعة تطل على موقع الاحتفال، مستخدمَيْن أسلحة نصف آلية، كما عُثر لاحقاً على عبوات ناسفة بدائية في سيارة مرتبطة بأحدهما. قُتل أحد المهاجمين برصاص الشرطة، بينما أُصيب الثاني بجروح خطيرة وجرى اعتقاله. وبين تفاصيل الرعب، برزت قصة رجل يُدعى “أحمد الأحمد”، وثّقته عدسات الكاميرات وهو يهاجم أحد المسلحين من الخلف ويطرحه أرضاً وينتزع سلاحه، قبل أن يُصاب بدوره بالرصاص، في مشهد جسّد أعلى درجات الشجاعة المدنية وسط الفوضى.
وسرعان ما بدأت هوية أحد المهاجمين المسمّى ” نفيد أكرم” تتضح؛ إذ كشفت تقارير صحفية أنه يحمل الجنسية الباكستانية ويقيم في إحدى ضواحي سيدني، وأن الشرطة داهمت منزله بعد ساعات من الهجوم بحثاً عن أدلة أو شركاء محتملين. وحتى لحظة كتابة هذه السطور، لا تزال السلطات تلتزم الحذر في الحديث عن الدوافع النهائية، مكتفية بالتأكيد على أن الهجوم «مدفوع بدافع كراهية معادٍ لليهود»، وأن خيوط التحقيق تشمل منشوراته الرقمية وصلاته المحتملة بمجموعات متطرفة داخل أستراليا أو خارجها. ومع أن بعض التحليلات الإعلامية سارعت إلى ربط الهجوم بخيوط جيوسياسية تمتد من باكستان إلى الشرق الأوسط، فإن الأجهزة الأمنية لم تعلن حتى الآن عن دليل علني يثبت وجود توجيه مباشر من دولة أو تنظيم خارجي، ما يجعل أي اتهامات في هذه المرحلة أقرب إلى الفرضيات السياسية منها إلى الحقائق القضائية.
ومهما تكن نتائج التحقيق الجنائي، فإن هذا الهجوم لا يمكن فصله عن المناخ الأوسع الذي تعيشه الجاليات اليهودية حول العالم منذ سنوات، والذي تفجّر على نحو خاص بعد انفجار الأوضاع في غزة وتصاعد التوتر في المنطقة. حذّرت تقارير رسمية ومنظمات يهودية في أستراليا من «ارتفاع غير مسبوق» في حوادث معاداة السامية، من تهديدات ورسائل كراهية إلى اعتداءات على ممتلكات ومؤسسات دينية. و في هذا السياق لا تبدو مجزرة “بونداي”، بالنسبة لكثير من اليهود الأستراليين، حادثة معزولة بالكامل بل هي ذروة منحنى طويل من التصعيد اللفظي والرمزي الذي انتهى إلى دماء على رمال الشاطئ.
يمكن أن يحمل الهجوم أيضاً دلالات حساسة على صعيد العلاقة بين الجاليات اليهودية والمسلمة في أستراليا. فمن جهة، وقع الاستهداف في لحظة دينية رمزية بالنسبة لليهود، ومن جهة أخرى، أظهرت هوية أحد المهاجمين باعتباره باكستانياً أن هناك خطراً من أن يُستغلّ الحادث لصبّ الزيت على نار سوء الفهم بين اليهود والمسلمين داخل أستراليا وخارجها. لكن ما يستحق التوقف عنده هو أن الهيئات الإسلامية الرئيسية في أستراليا سارعت إلى إدانة الهجوم بوضوح، ووصْفه بأنه «جريمة مرفوضة شرعاً وإنساناً»، والتأكيد على تضامن المسلمين مع الضحايا ومع المجتمع اليهودي الأسترالي باعتبار المجتمعات الاسترالية معروفة بالتعايش السلمي و احترام الأديان فيما بينها. هذا التمايز بين أقلية متطرفة تحمل السلاح باسم شعارات دينية، وبين غالبية مسلمة تعلن رفضها القاطع للإرهاب ومعاداة السامية، هو ما يمكن أن يحمي نسيج العلاقة بين الأديان على تعددها واختلافها من محاولة جرّها إلى صدام شامل.
و بعيداً عن أستراليا، يأتي هذا الهجوم في لحظة شديدة الحساسية في الشرق الأوسط، حيث ما زال تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم ٢٨٠٣، الخاص بخطة السلام في غزة، في بداياته. القرار الذي مرّ برعاية أميركية تبنّى خطة شاملة لإنهاء الحرب في القطاع، وفتح أفق لإدارة انتقالية بآليات دولية وأمنية واقتصادية، بهدف أن تتحول غزة من ساحة إطلاق صواريخ إلى فضاء يمكن فيه للفلسطينيين أن يحددوا مصيرهم بعيداً عن حكم الجماعات المسلحة، وبما يضمن أمن إسرائيل في الوقت نفسه. هذه الصيغة ترتبط مباشرة برؤية الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، الذي عاد إلى البيت الأبيض و شعاره “إنهاء «الحروب التي لا تنتهي”، ويقدَّم القرار على أنه ترجمة عملية لأجندته الواسعة لفرض مسار سلام جديد في الشرق الأوسط، لا يقتصر على غزة بل يمتد إلى إعادة ترتيب أوسع لعلاقات إسرائيل بجوارها والعالم العربي.
و على الرغم من ان الإدارة الاميركية الحالية باعتبارها الجهة التي تحاول بث و ان لزم الأمر فرض السلام في المنطقة عبر مزيج من الضغوط والقرارات الدولية، فإن كثيراً من المراقبين يشيرون إلى أن هذا المسار الذي يعكس أجندة الرئيس ترامب نفسه أكثر مما يعكس مجرد بيروقراطية دبلوماسية؛فهو يضع اسمه مباشرة على مشاريع القرارات التي تُقدّم للرأي العام المحلي والعالمي بوصفها خطوات شخصية في مشروعه الأكبر لخفض منسوب الحروب والإرهاب، وربط ذلك برؤيته للأمن القومي الأميركي وحماية الحلفاء، وعلى رأسهم إسرائيل.
و بالتالي فيمكن لهذه الرؤية ان لا تعجب قوى وتيارات متعددة في الإقليم؛ حيث أنظمة وميليشيات موالية لإيران تنظر بقلق إلى أي ترتيب في غزة والمنطقة يتم خارج نفوذها أو يقلص حضورها. طهران نفسها تبدي رفضاً صريحاً لأي صيغة سلام ترى فيها تكريساً لدور الولايات المتحدة وشركائها، سواء في إدارة القطاع أو في رسم توازنات جديدة في المنطقة. و في هذا المناخ، من الطبيعي أن يطرح بعض المحللين احتمال أن تلجأ أطراف مرتبطة بمحور إيران أو متأثرة بخطابه إلى تنفيذ هجمات ضد أهداف يهودية أو إسرائيلية أو غربية خارج الشرق الأوسط، بهدف إرسال رسائل ضغط، أو تشتيت الأنظار عن مشكلاتها الداخلية، أو التأثير في توقيتات سياسية حساسة مثل زيارة مرتقبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي إلى البيت الأبيض وما قد تحمله من دفعة جديدة للمرحلة الثانية من خطة السلام. و تحديها مؤخرا للقرارات المتعلقة بالجزر الاماراتية الثلاث إلى جانب قرصنة باخرة و سجن الإيرانية ” نرجس محمدي” الحائزة على نوبل للسلام ودورها ومحاولاتها الدائمةلانتهاج وخلق التوتر المزعزع للاستقرار و تبقى هذه القراءات في إطار التحليل السياسي، لكنها تعكس حجم تشابك المحلي بالعالمي في مثل هذه الأحداث.
في المقابل، تتحرك واشنطن على مسار سياسي وقانوني متوازٍ مع المسار الأمني. فبيان وزارة الخارجية الأميركية الذي صدر مؤخراً للشرح المبرر لتصويت الولايات المتحدة بـ«لا» على قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة اعتبرته الإدارة “منحازاً وغير جاد”، جاء ليؤكد أن البيت الأبيض يرفض كل ما يراه تشويشاً على تنفيذ قرار مجلس الأمن ٢٨٠٣. و شدّد البيان على أن القرار الأممي الجديد يطالب إسرائيل بالتقيد برأي استشاري غير ملزم لمحكمة العدل الدولية، وأن استخدام مثل هذه الآراء لفرض مواقف قانونية وسياسية يعد، من وجهة النظر الأميركية، استخفافاً بالقانون الدولي وتجاوزاً لسيادة الدول. كما أعلن البيان رفض واشنطن لأي محاولة لإعادة تمكين الأونروا في غزة، ووصْفها بأنها منظمة فاسدة وغير خاضعة للرقابة، و متورطة في الترويج لمعاداة السامية وتمجيد الإرهاب، والتأكيد أن لا مكان لها في مستقبل القطاع.
يتقاطع هذا التشدد في الموقف من بعض مؤسسات الأمم المتحدة مع خطاب الإدارة عن مكافحة معاداة السامية عالمياً، وربط أمن اليهود في الشتات بأمن إسرائيل وبضمانات واضحة في أي ترتيبات مستقبلية في غزة والمنطقة. ومن زاوية البيت الأبيض، فإن هجمات مثل هجوم بونداي تعزّز سرديةً تقول إن معاداة السامية لم تعد مجرد مشكلة أوروبية أو شرق أوسطية بل هي تهديد عالمي عابر للحدود، وأن مواجهة هذا الخطر تتطلب تشديد التنسيق مع الدول الحليفة، وتسريع خطوات فرض السلام في بؤر التوتر التي تُستَخدم ذريعة لتأجيج العنف في أماكن بعيدة.
و في خضم ذلك، تقف الجاليات اليهودية أمام معادلة شديدة الصعوبة: فمن جهة، هي هجمات دامية تجعل الشعور بالهشاشة والتهديد وجودياً، وتعيد إلى الأذهان صور الماضي الأليم، وتدفع كثيرين إلى التساؤل: هل أصبح الاحتفال الديني نفسه مخاطرة؟ ومن جهة أخرى، هناك إدراك لدى عدد كبير من القيادات اليهودية بأن الانزلاق إلى خطاب تعميم الشبهة على كل المسلمين أو كل المهاجرين من دول معيّنة لن يحل المشكلة بل سيعمّقها ويقطع الجسور مع ملايين المسلمين الذين يرفضون الإرهاب وينددون بمعاداة السامية. لذلك تعمّد كثير من ممثلي الجالية اليهودية في أستراليا الإشارة في بياناتهم الأولى بعد الهجوم إلى امتنانهم للمسلم الذي خاطر بحياته لإيقاف أحد المهاجمين، وإلى تقديرهم للإدانات الواضحة الصادرة عن هيئات إسلامية، في محاولة لتثبيت فكرة أن الصراع الحقيقي هو مع المتطرفين، لا مع الدين الآخر.
وسط هذا المشهد الملبّد، تلعب القيادة السياسية الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة دوراً حاسماً لمحاولة فرض السلام في الشرق الأوسط خاصة في الوقت الحالي بالنظر إلى انّ مشروع السلام قد ارتبط باسم الرئيس “ترامب” شخصياً، باعتباره صاحب «الإرادة» و«الخطة» لإنهاء حروب طويلة وتغيير قواعد اللعبة. يرى أنصاره في ذلك استمراراً لنهج يسعى إلى استبدال الفوضى باتفاقات، وترك بصمة تاريخية في ملفات شائكة من الخليج إلى شرق المتوسط. بينما يحذّر منتقدوه من أن السلام المفروض من أعلى، إذا لم يراعِ جذور النزاعات ومعاناة الشعوب، قد يتحول إلى هدنة هشة تحمل عناصر انفجارها في داخلها.
لكن مما لا شك فيه أن هجوم بونداي أضاف طبقة جديدة من التعقيد إلى لحظة دولية مشحونة أصلاً؛ فقد ذكّر بأن المواجهة مع الإرهاب ومعاداة السامية لا تعرف حدوداً جغرافية، وأن القرارات المتخذة في نيويورك وواشنطن وتل أبيب وطهران لها صدى مباشر في حياة مجتمعات يهودية ومسلمة في سيدني خاصة وفي العالم بصفة عامة. وبين تحقيقات جنائية تبحث عن الدوافع وخيوط التنظيم، وتحليلات سياسية تربط الخيوط بين شاطئ بعيد وقرارات مجلس الأمن ومصافحات في البيت الأبيض، يبقى التحدي الأكبر هو كيف يمكن حماية المجتمعات المحلية من أن تتحول إلى وقود لصراعات أكبر منها، وكيف يمكن للقيادة الدولية أن تثبت أن الحديث عن السلام ليس يجب ان يكون واقعا له مسار يتطلب قوة وصلابة، وعملًا دؤوباً، ووعياً بأن كل رصاصة تُطلَق في احتفال ديني تُضعف ما تبقى من ثقة بين الأديان والشعوب، وتضع امتحاناً جديداً أمام فكرة التعايش ذاتها.




